لا أرى الطبق مع أننى متأكدة أن هذا هو مكانه. أسأل أمى، فتجيبنى بمزيج من الاستغراب والحزن، «الصحن فى بيت الشام، مو هون»
أعيد ترتيب الأشياء فى المطبخ حتى تتطابق مع أماكنها فى مطبخنا فى دمشق. أمد يدى بحثا عن طبق معين فلا أجده. أرفع نفسى على كرسى صغير وأنظر فى آخر الرف، لا أرى الطبق مع أننى متأكدة أن هذا هو فعلا مكانه. أسأل أمى عنه، فتجيبنى بمزيج من الاستغراب والحزن، «الصحن فى بيت الشام، مو هون»، تجيبنى.
أجلس مع صديقتى فى عاصمة غربية أزورها فى رحلة عمل، وقد استقطعت قليلا من الوقت من كل يوم خلال الرحلة لملاقاة أصدقاء بعضهم لم أره منذ أيام لقاءاتنا فى سوريا. أسألها عن أحوالها وعن تأقلمها مع عملها ومع الحياة فى هذه المدينة الجميلة. أسألها عما إذا كانت فى حالة انتظار، أشبه بكثير منا ننتظر أن «تنحل الأزمة» كما نقول مستخدمين مصطلحات فضفاضة تعبر عن رغبتنا جميعا، بغض النظر عن مواقفنا السياسية، فى العودة إلى بيوتنا. «لا أنا مو بحالة انتظار، الحياة مستمرة، طبعا مشتاقة كتير لبيتى بس ما بقدر قول إنى فى حالة انتظار»، تجيبنى بنبرتها المميزة التى لم تتغير خلال عشرين سنة من صداقتنا العميقة. تلمع عيناها الخضراوتان بشغف وهى تتحدث عن اكتشافها لبقال عربى فى الجزء الغربى من المدينة، «عنده كل شىء، فريكة ولبنة ودبس رمان، اشتريت كتير أشياء بس اكتشفت أنه ما عندى أدوات للطبخ ومو مستاهلة أشتريها مرة ثانية لأنها كلها موجودة عندى فى البيت فى الشام». تقول صديقتى الجميلة التى عرفناها مضيفة رائعة فى حياتنا السابقة فى سوريا. تشرح لى أنها اشترت أخيرا أطباقا مزخرفة تكمل بها الطقم الصينى الذى تركته فى مطبخها هناك. أنظر إليها، أريد أن أضمها لنبكى معا. «كل هالحكى وانت مو بحالة انتظار؟» أقول لها فتصمت.
•••
فى الزيارات الخاطفة التى أقوم بها بسبب عملى إلى أى بلد، أبحث عن أصدقاء استقروا فيه. قد يكونون أناسا قريبين منى أو أناسا زادت علاقتى الافتراضية بهم منذ أن جمعتنا التغريبة السورية. حين أقابل الأصدقاء السوريين نكمل حديثا نكون ربما قد بدأناه فى سوريا منذ سنوات أو على الصفحة الزرقاء أخيرا. نجتمع بعد العمل فى المطعم السورى، ونطلب الكبة النية والمحمرة والتبولة. نتناقش ونختلف ثم نتفق على بعض النقاط، ويصرخ أحدنا فيهدئه جاره على الطاولة، نستذكر معا شوارع وقصصا من المدرسة، ونسأل عن أناس لم نرهم منذ سنوات. لدى كل منا دكانة قصص نسحب منها السعيدة والحزينة، لكننا نجتمع حول حزننا على بلدنا وغضبنا من العالم كله. تكبر شبكة الصداقات بشكل مخيف بفضل التكنولوجيا وبفضل حاجتنا للتواصل، حاجتنا لإبقاء خط الحياة مفتوحا مع سوريا، وريدٌ لا نريد أن نقطعه، ينقل الذكريات والحزن والأمل والأحلام داخلنا، يربط القلب بالعقل وباللسان، فترانا لا نتوقف عن الكلام حين نلتقى، لا نأخذ دقائق للصمت أو التأمل، نعرف أن لهذا اللقاء مدة محددة، نتكلم دون توقف فيختلط الحديث السياسى بأخبار العائلة، وندخل النميمة بين قوسين لنخلص أن فلانا ثقيلا الظل رغم اتفاقنا معه فى الشأن السياسى.
أصبحت علاقتى بمدن لم تكن تعنينى فى الماضى مبنية على تواجد أصدقاء عرفوا سوريا فيها، أصبح لى فى كل مدينة بيت يعوضنى ولو لبضع ساعات عن حنينى إلى بيتى فى الشام، فأجلس عند صديقة فى لندن وآكل مهلبية على وجهها رشة فستق مدقوق وحبات صنوبر، أرفع رأسى فتقع عيناى على صندوق العروس السورى، وهو قطعة أثاث فيها أدراج وتركب على الجدار فوقها مرآة، كلاهما من الخشب المتداخل فيه صدف هو على الأغلب نهرى يجعل وجهه يلمع كالفضة، هذه القطع مميزة جدا فى بيوت المدن السورية الكبرى، وكثيرا ما كانت تنتقل من جيل إلى جيل بالوراثة وتسمى مجازا «شغل الصدف». أضع طبق المهلبية على الطاولة أمامى وألاحظ أن صديقتى خلقت سوريتها داخل بيتها كما فعل الكثيرون منا فى بيوتهم فى البلاد المختلفة.
•••
أصبح لى بيت فى كل مدينة فيها صديق أو صديقة ألتقيه فى الغربة ويشعر معى بقيمة ما فقدناه، فيحاول أن يخفف عنى بقوله «بكره بتهدى الأوضاع». ذلك الغد الذى يأبى أن يأتى، فأشعر وكأننى الطفلة التى وعدوها بلعبة جديدة حتى تسكت ثم نسوا أنهم وعدوها. أصبح لى سوريا صغيرة وحميمة فى كل جلسة فى الغربة لا نخرج فيها عن الموضوع السورى، حتى قال لى زوجى مرة خلال زيارة سريعة لفرنسا «هل ممكن أن ندخل المتحف ولو حتى لمدة نصف الساعة، أم أننا هنا فقط لزيارة دمشق؟».
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة