ظهرت معالم الدولة بعد هجرة النبى إلى المدينة المنورة ، حيث أصبحت للمدينة المنورة إدارة منظمة تجمع السلطات التى يخضع لها الناس
ظهرت معالم الدولة بعد هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة ، حيث أصبحت للمدينة المنورة إدارة منظمة تجمع السلطات التى يخضع لها الناس، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قائدًا لهذه الإدارة، ومرجعية لتلك السلطة، بما آتاه الله من العلم والوحي؛ قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].
والمتأمل فى قراراته وتصرفاته صلى الله عليه وسلم فى إدارة هذه الدولة يجد بوضوح أنها لم تكن على نمط واحد، وإنما جاءت حسب تنوع الاختصاصات والصلاحيات ومراعاة مقتضيات الواقع وأحوال الناس، وعن ذلك يقول الإمام القرافى فى الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهى التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة: «اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم، والقاضى الأحكم، والمفتى الأعلم؛ فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة، وقاضى القضاة، وعالم العلماء؛ فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه فى رسالته، وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها فى ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب دينى إلا وهو متصف به فى أعلى رتبة، غير أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه، ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم: منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعًا، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة (أى كقائد للأمة)، ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا؛ فمنهم من يغلب عليه رتبة، ومنهم من يغلب عليه أخرى، ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف تختلف آثارها فى الشريعة»، ثم فرق بين كل وظيفة بفروق دقيقة فى كتابه «الإحكام فى تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضى والإمام». وفى هذا السياق لفت رحمه الله تعالى وغيره من علماء المسلمين إلى مواضع التأسى والاقتداء فى كل نوع من أنواع تصرفاته عليه السلام، فما كان من قبيل الرسالة والبلاغ فهو شرع للمسلمين وهم مخاطبون به، وما كان من قبيل أحكام القضاء فإنه لا ينبغى العمل به إلا وفق نظام القضاء وآلياته، وما كان من قبيل الإمامة فيرجع إلى القيادة السياسية (ولى الأمر) للنظر والعمل بمقتضيات أحوال الناس والعصر وفق المقاصد الكلية والمقررات التشريعية.
وفى ذلك ترسيخ وإرساء لقواعد وأسس المرجعية بما يضمن لها معايشة المستجدات والنوازل التى يقتضيها التطوُّر فى العلوم والمعارف والنظم عبر التاريخ، والتى تتجلى سماتها بالمرونة؛ حيث تكريس الاهتمام نحو ترسيخ القواعد الكلية والقيم والمبادئ العامة الثابتة، مع توجيه العلماء وأهل الاجتهاد والنظر لفحص المسائل والحوادث الجزئية فى إطار هذه القواعد والمبادئ، مع حشد الجهود وتوحيد الصفوف لتحقيق الأهداف المنشودة.
ويشهد لذلك مع ما سبق أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رغم كونه صاحب الوحى وخاتم الرسالة والتشريع كان يحرص على مشورة أصحابه فى النوازل والمستجدات وفى قضايا الحرب والسلم، فعن أبى هريرة رضى الله عنه كان يقول: «ما رأيت أحدا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ولا يخفى أن استعمال هذا المبدأ والتوسعة فيه على هذا النحو يؤسس لاستحقاقات سياسية وتشريعية واسعة بما يضمن عدم الإفراط والتفريط فى استخدام المرجعية، شريطة أن تكون منضبطة بضوابط الشرع الشريف ومقاصده.
أما بالنسبة لغير المسلمين فنجد إقرارهم على مرجعيتهم كما يقررونها هم؛ فلم يتدخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم فى سير حياة شركائه فى الوطن من غير المسلمين، وهذا مقرر فى بنود «وثيقة المدينة» بما اشتملت عليه من أمور تنظيمية لمهام الدولة وواجباتها تجاه مواطنيها مع صياغة منضبطة شاملة ودقيقة لا تدع مجالًا للاختلاف حول مفاهيمها ومجالات تطبيقها، وقد ورد فيها: «لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ»، ونلمح فى هذا التصرف صورة تشبه فى كثير من جوانبها ـ وليس بتمامها ـ النظم الفيدرالية الحديثة. ويبدو أن ترك غير المسلمين إلى مرجعيتهم وما يدينون كان مسلكًا عامًّا فى البلاد؛ فقد جاء فى كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: «أنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها» وبذلك فإن الشرع الشريف بوصفه القانون العام فى بلاد المسلمين قد قضى بترك غير المسلمين وما يدينون؛ أى أنه لم يتعرض فى أحكامه للفصل فى صحة تصرفات غير المسلمين أو بطلانها بمعاييره، وإنما تركهم ومقتضيات عقائدهم.
وبذلك تتجلى سمات مرجعية الدولة فى عصر الرسالة فى أن مرجعية المسلمين تتلخص فى الوحى (الكتاب والسنة الصحيحة) مع المحافظة على المقاصد الشرعيَّة والمبادئ العليا كرفع الحرج والتيسير والعدل وتحقيق مصلحة المواطنين، وأن غير المسلمين يرجعون إلى مقررات دينهم وعقائدهم. وقد جرى العمل لدى المسلمين من بعد عصر الرسالة على هذه الأصول حتى عصرنا الحديث، وهو ما سنتناوله بشيء من التفصيل فى الأسبوع القادم إن شاء الله.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة