من حق الكثيرين أن يطرحوا أشكالا من الأسئلة، المليئة بالشكوك والظنون، حول سيرورة ظاهرة الدولة الإسلامية ونظام حكمها
من حق الكثيرين أن يطرحوا أشكالا من الأسئلة، المليئة بالشكوك والظنون، حول سيرورة ظاهرة الدولة الإسلامية ونظام حكمها من قبل الجماعة الجهادية التكفيرية العنيفة المسماة داعش.
ذلك أن هناك الكثير من شعاراتها وتصٌرفاتها وعلاقاتها التى توحى بأنها ليست نبتة ذاتية من صنع شباب وشابات مسلمين غيورين على دينهم وراغبين فى إقامة دولة لذلك الدين، حتى ولو كان فهمهم لشريعة ذلك الدين ومعاملاته فهما متخلفا وظالما ومتصادما مع أنبل ما فى العصر الذى نعيش فيه من قيم وحقوق وضوابط.
لو كان ذلك الفهم البليد المجنون نتيجة لعاهة فى نبتة ذاتية، وليست نبتة زرعتها أيادى الغير وتولت رعايتها جهات خارج نفسها، لبقيت تلك النبتة محدودة فى إمكانياتها وسرعة نموها، ومحصورة فى تربتها وفى تأثيراتها على البشر والمجتمعات والدول عبر العالم كله، بل ولما بقيت عصية حتى الآن على كل محاولات احتوائها ومنع انتشارها وإلحاق هزيمة بتركيبتها العسكرية.
أصابع كثيرة تشير إلى هذا الغير الخارجى الذى لعب دورا محوريا فى زراعة نبتة داعش، ابتداء بما نشرته مواقع ويكيليكس الشهيرة التى سمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والكيان الصهيونى كمؤسسين لتنظيم داعش سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مرورا بجهات عربية وإقليمية رسمية قدمت أنواعا من المعونات المادية واللوجستية، وانتهاء بذكر أسماء مائة وثلاثين من الأفراد والجهات الموثرة التى أغدقت المال. وكانت النتيجة تكوين جيش دولى فى فترة قصيرة من عشرات الألوف من المتطوعين من كل أنحاء العالم، جيش مجهُز بأحدث وأفتك الأسلحة ولديه المعرفة والخبرة القتالية ذات المستوى العالمى الرفيع.
كلُ ذلك تم والغرب كله يدعى عبر عشر سنوات كاملة بأنه فى معركة حياة أو موت مع الإرهاب الدولى، ليتفاجأ هذا الغرب، بقواه الاستخباراتية والتجسسية الهائلة، باحتلال داعش لثلث أرض العراق وانتقالها إلى سوريا ونجاحها فى تمرير الألوف عبر تركيا، ومعها الغرب والصهيونية وبعض العرب أغمضت العيون وأخرست الألسنة عن الخوض فى الموضوع، وأخيرا نجاحها فى تهيئة خلايا نائمة فى طول وعرض العالم كله بما فيها عواصم الدول الكبرى.
وما إن تم ذلك ونفخ فى صور الكذب والتظاهر بالبراءة الشيطانية حتى استعمل وجود داعش كقميص عثمان لتتكوُن فى لمحة بصر مجموعات جهادية متعددة متصارعة، بجداول أعمال متناقضة، بأهداف سياسية متباينة، بارتباطات ظاهرة وخفية باستخبارات وحكومات فى أرض العرب وخارجها. وجميعها، وبقدرة قادر، لديها الجيوش أو الميليشيات المسلحة المدرُبة الممولة والقدرة الفائقة على احتلال الأراضى وتنظيم الإدارة والحكم فيها.
***
فى هذا الخضُم من تشابك المحلى بالدُولى، السياسى بالدينى، الدينى بالطائفى، الحاضر بحزازات الماضى، أحلام الصغار بلعب دور الكبار، الأخبار بالتحليلات المضللة، الجهل والثقافة البليدة عند الملايين بالانقياد الأعمى لاتهامات مفبركة ولصراعات عبثية من مثل صراع الاسلام السنى فى مواجهة الإسلام الشيعى المضحك المنهك للأرض وللأمُة... فى هذا الخضم المتشابك اللابس ألف قناع، المتغير يوميا، اختفى موضوع قيام داعش الذاتى المبنى على فهم خاطئ للإسلام وعلى استعمال انتهازى مجنون لتعاليمه، ليحلُ محلُه تشخيص رئيس أكبر وأقوى دولة فى العالم بأن داعش هى فى الحقيقة قوُة قتالية إرهابية دولية لن يمكن قهرها إلا بعد عقود من المواجهة من قبل تحالف دولى يضمٌ العشرات من الدول التى تكون فيما بينها قوة عسكرية جبارة.
فى هذه الأجواء العاصفة فى القطرين العراقى والسورى تهيأت الأجواء، ومرة أخرى بقدرة قادر منظم متآمر، لانتشار داعشى سريع وناجح فى ليبيا وتونس وسيناء وعدة دول أفريقية واليمن وبعض دول الغرب. لم يجد التنبُه الدولى لخطر داعش ولم يجد الحلف الدولى الكبير لمحاربته، لم يجديا فى منع الانتشار والترسخ والتعاظم فى مجتمع بعد مجتمع.
وفى هذه الأجواء العاصفة المخيفة بدأت حملة إعلامية ظالمة على الجاليات الإسلامية الساكنة فى دول الغرب وعلى الدين الإسلامى، حملة إيديولوجية قبيحة لجعل الإسلام العدو الأكبر والأخطر لحضارة الغرب.
وفى الأرض العربية قاد الوجود الداعشى الخطر الإنسان العربى إلى الابتعاد عن شعاراته العروبية والديمقراطية الكبرى ليطلب السَتر تحت جناح هذا الديكتاتور الصغير أو ذاك الطائفى المتزمت أو ذاك الحكم المتخلف.
***
ليس هذا بالطبع تبرئة للعامل الذاتى المتمثل فى وجود تراث فقهى إسلامى متخلُف ساهم فى تهيئة بيئة صالحة لقيام القاعدة وداعش والنُصرة واخواتهم وأبناء عمومتهم. ذلك أن تاريخ العرب ملىء بمد وجزر لقيام واختفاء مثل تلك التوجهات والتنظيمات، قيامها بصورة ذاتية واختفائها بصورة ذاتية.
فى هذه المرة يدخل العامل الخارجى بقوة وتآمر واستراتيجية بعيدة المدى وبتفاهم مع قوى سياسية محليُة.
موضوع داعش لم يعد مرتبطا بوجود تنظيمها أو عدم وجوده، فهناك الكثيرون ممن على استعداد لأخذ مكانها، وإنما هو فى أعماقه موضوع مستقبل أمة العرب ووطنها، ومستقبل وحدتها ونهوضها ودخولها فى مسيرة الإنسانية الحديثة.
ولأنه كذلك يرقص الخارج رقصة الشيطان معه ومن حوله.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة