هل تريد أن تعرف ما هو حجم التغيير الذى أحدثه؟
(1) رسائل كثيرة تسأل عن غياب نجوم الرياضة عن سلسلة صنايعية مصر، واحدة منها ذكرتنى بالناقد الكبير نجيب المستكاوى، وكنت قد تجولت فى أرشيفه من قبل و كتبت عنه القليل، أحاول اليوم أن أوفيه بعضا من حقه.
(2) قبل ظهور نجيب المستكاوى فى الخمسينيات كان النقد الرياضى فى مصر عبارة عن مربع صغير شبه مهجور فى صفحة داخلية بجريدة الأهرام يعلق على الأحداث متى ظهرت..
هل تريد أن تعرف ما هو حجم التغيير الذى أحدثه؟
بعد ظهورالمستكاوى بسنوات ، كان الكاتب الكبير موسى صبرى رئيسا لتحرير «الجمهورية» ، طلب المشرف الرياضى لجريدته «ناصف سليم» فى مكتبه قائلا «لاحظت ان توزيع الصحيفة يزيد فى الأيام الثلاث التى تقام بها مباريات ثم يقل « ، قال له «ناصف سليم» طب اعمل ايه يعنى؟ اقول لاتحاد الكرة العبوا ماتش كل يوم؟» ، فقال صبرى « لا .. أريدك أن تفتعل مشاجرة صحفية كروية مع نجيب المستكاوى بحيث تكتب مهاجما له فيرد عليك فترد عليه و هكذا فيزيد التوزيع» ، رفض ناصف سليم الفكرة لصداقته مع شيخ النقاد المستكاوى ، فكتب موسى صبرى بنفسه مهاجما واصفا المستكاوى بأنه «الديك الفصيح» ، فرد عليه المستكاوى فى سطور قليلة و لمرة واحدة متحدثا عن كتاب السياسة الكبار الذين أفلسوا فبدأوا «يتمحكوا فى الكورة».
مابين فكرة أن النقد الرياضى لا يمثل شيئا، و بين تحوله إلى سبب جوهرى للحراك الصحفى، تقع مسيرة نجيب المستكاوى.
(3)
كان الدكتور طه حسين مستشارا لدار الكتاب العربى للنشر، هاتفهم فى مرة يسألهم عن الكتاب الذى يعملون عليه فى المطابع حاليا ، فقالوا له كتاب مترجم لجان جاك روسو اسمه « أزمة الضمير الأوروبى» ، كان العميد قد سبق له قراءة الكتاب فى لغته الأصلية ، فطلب منهم أن يراجع الترجمة قبل النشر ..
كان المستكاوى هو المترجم وبعدها أصبح المستكاوى ضيفا ثابتا فى صالون العميد ، و صدر الكتاب بتقديم العميد قائلا « تعالوا إلى لذة المعرفة ، ومتعة الفهم ، وسمو التذوق»
كان المستكاوى موظفا فى وزارة الشئون الاجتماعية بعد الثورة مباشرة، تحديدا فى إدارة شئون الرياضة ، كانت مهمته تقتضى الرد الدائم على أسئلة مندوبى الصحف فى الوزارة، أوقعته المهمة فى ملل شديد من فرط الإجابة عن الأسئلة نفسها كل دقيقة ، فكتب بيانا يشرح فيه كل ما حدث بالتفصيل ووزعه على الصحفيين حتى يريح دماغه ، وقع البيان فى يد كمال نجيب المسئول عن كتابة المربع الرياضى الصغير فى الأهرام، أعجبته لغة الكتابة، فسحب المستكاوى من يده إلى الأهرام .
قال له « معك الآن صفحة كاملة فانظر ماذا ترى؟»، فكر المستكاوى كيف يرى ولا فريق عمل تحت يده؟ ، أهل الصحافة لا يهتمون بالعمل فى الرياضة ، لكن ربما يجد من اهل الرياضة من هو مهتم بالعمل فى الصحافة ، فكان أن شكل فريق العمل الصحفى من كل من : كامل المنياوى «حكم ملاكمة«، و حسن عفيفى « حكم كرة قدم « ،و حسن فضل «حكم رجبى»، ثم بدأ العمل .
(4)
على مدى سنوات ثلاثة كانت الصفحة حديث الوسط و الجمهور، كان يضع المادة و لا اسم فى الصفحة سوى اسم كمال نجيب فى مربعه الصغير .
نقلت بقية الصحف التجربة، لكن الإعلانات لم تكن تعرف سوى صفحة المستكاوى فى الأهرام، ثم صدر قانون عدم الجمع بين وظيفتين فاستقال المستكاوى من الوظيفة و تفرغ للأهرام .
فى هذا اليوم كتب كمال نجيب عنه يقدمه للناس و يحكى عن مجهوده الصامت فى السنوات الماضية، ثم طلب كمال نجيب أن يتفرغ لمنصب سكرتير التحرير على أن يتولى المستكاوى رئاسة القسم الرياضى.
أصبح الأمر الآن أصعب من ذى قبل، فما اخترعه المستكاوى فى الأهرام تحول إلى عرف ثابت فى كل صحيفة مصرية أخرى، وكان عليه أن يقبل المنافسة ،فترك المنافسين يسيرون فى الطريق العمومى ثم اخترع لنفسه طريقا جانبيا مدهشا .
(5)
اختار المستكاوى أن ينافس بثلاثة اختراعات :
الاختراع الأول : التجاهل النسبى لقطبى الكرة المصرية الأهلى و الزمالك و الإنحياز الكامل للفرق الأخرى بالذات فرق الأقاليم ، ابتعد المستكاوى تماما عن مشاجرة الاهلى و الزمالك اليومية ووجه كامل طاقته فى دعم فرق مثل المحلة و الإسماعيلى والأوليمبى والترسانة ، وكان لدعمه أثر بالغ الاهمية ، فاز الأولمبى باللقب عام 65، وفاز فريق المحلة باللقب عام 72، وفاز الإسماعيلى باللقب عام 67 ، ثم فاز الفريق نفسه ببطولة أفريقيا .
الاختراع الثانى : اللمسة الساخرة ، و تجسدت هذة اللمسة فى إعادة تسمية الفرق و اللاعبين حتى أصبحت أسماؤهم الجديدة معترفا بها حتى الآن ، فالإسماعيلى هو « الدروايش» لأن أبرز لاعبى خط الوسط وقتها كانا «أيمن درويش» و «مصطفى درويش» و اشتهرا بالمراوغة الشوارعية التى تجعل الخصم يلف حول نفسه و يترنح يمينا و يسارا مثل الدروايش ، و الترسانة هو «الشواكيش» لأن معظم لاعبيه كانوا عمالا فى الورش الأميرية و انعكس ذلك على أدائهم الذى لم يكن يخلو من الخشونة (خشونة المطارق).
الاختراع الثالث : طريقة جديدة لتقييم الأداء فى الماتشات ، طريقة بسيطة للغاية و مليئة بجاذبية طفولية، وهى منح كل لاعب فى المباراة درجة من عشرة، كان الماتش ينتهى و يذهب كل لاعب إلى الفراش يقضى الليلة فى أرق تام حتى يرى الدرجة التى سيمنحها له المستكاوى فى مقال الغد ، كانوا كثيرا يتصلون به ليناقشوه فى الدرجات ، أتصل به مسئول يسأله لماذا منحت «عوضين» لاعب الاهلى الشهير فى المباراة الأخيرة ( صفرين من عشرة)؟، قال المستكاوى ( صفر لكل عوض).
(6)
اخترع الصنايعى نجيب المستكاوى مهنة النقد الرياضى و أشعل دروبها بالمعارك و النقد اللاذع لاتخن مسئول رياضى فى مصر ، خدم الرياضة المصرية بانحيازه لكرة قدم الأقاليم، و دعمه التام العادل الملىء بالفهم لكل الألعاب الأخرى، فكان ينتظر تحليله لاعبو المصارعة وكرة اليد و ألعاب القوى، ابتعد عن الكتابة عن النجوم و احترف صناعة النجوم بداية من عز الدين يعقوب نجم الأولمبى نهاية بمحمد رشوان بطل الجودو.
(7)
توفى المستكاوى عام 1993، وكان آخر ما قاله فى حوار صحفى أجرى معه فى مقر إقامته بقسم القلب بأحد مستشفيات المعادى : « الكورة هى حياتى .. ده أنا حتى عندى 11 حفيد بافكر اعمل بيهم فريق ينافس على الدورى».
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة