لعل أهم مراحل العمل الدبلوماسى المصرى فى الأزمة المصرية / الإثيوبية هى مرحلة الدبلوماسية الوقائية حيث يكون دورها وقائيا
لن أذيع سرا أو أفتح أبوابا ينبغى أن تظل مغلقة ، وما سوف يأتى هو تناول عام لا يمت بصلة لأى موقف رسمى مصرى حالى ، كما أنه لا يجوز الاعتداد به للتدليل على حجة هنا أو هناك ، فهذا المقال يهدف إلى تسليط الضوء على بعض الطرق الجانبية التى قد تكون مفيدة .
لعل أهم مراحل العمل الدبلوماسى المصرى فى الأزمة المصرية / الإثيوبية هى مرحلة الدبلوماسية الوقائية حيث يكون دورها وقائيا ، ويتمثل هذا الدور فى مواصلة اختبار عوامل الأزمة المختلفة ومحاولة إقناع الطرف الآخر بعدم جدوى التصعيد، أو باختراق البيئة المحلية للخصم والبيئة الدولية بوجه عام واستخدامهما للضغط على الخصم للقبول بحل تفاوضى يحقق مصالح الطرفين، أو بإثبات أن الحل التفاوضى المقترح من جانبنا يحقق للطرف الإثيوبى المصالح الأعلى التى يسعى إلى تحقيقها وإن كان لا يحقق بالضرورة مصالح أخرى أقل أهمية، أو إغراء اثيوبيا بمكافآت قد ينالها إذا تراجع عن موقفه المتشدد فى هذه المرحلة المبكر.
وأن هذه المكافآت قد لا تصبح موجودة إذا انتقلت الأزمة إلى مرحلة أخرى متقدمة ، وتستخدم فى ذلك كل أدوات الدبلوماسية مثل التأثير على بيئة المفاوضات ، والاستخدام الماهر لوسائل الإعلام ، ومحاولة التأثير النفسى على مفاوضى الخصم التى قد تصل إلى التأثير الأخلاقى عليهم سواء باستغلال نقاط الضعف الشخصية ، أو بإقناع الخصم بعدم عدالة القضية التى يدافع عنها . وإذا أخفقت الدبلوماسية الوقائية ، فأنها تنتقل إلى مرحلة إدارة الأزمة .
وتتناسب أهمية دور الدبلوماسية فى هذه المرحلة طردياً وعكسياً مع تطور الأزمة إلى حد الاقتراب من الاشتباك العسكرى بين الأطراف، بحيث تتراجع أهمية الدبلوماسية وتأثير دورها كلما أقتربت الأزمة من هذا الحد ، ويكون الدور الفعال هو محاولة حصر الأزمة وعدم السماح بتشعبها، والدراسة الدقيقة لأوضاع القوة وتعديل المطالب والشروط تبعا لهذه الدراسة ، هذا دون التوقف عن الممارسات الدبلوماسية التقليدية الرامية إلى تأكيد عدالة الموقف وإقناع الوسط الداخلى والدولى بذلك بغض النظر عن الحالة التى وصلت إليها مواقف الأطراف على الأرض أو فى الواقع .
وإذا أخفقت كل المراحل السابقة ، نصل إلى المرحلة الأخيرة التى يمكن أن نطلق عليها دبلوماسية التكيف، أو دبلوماسية ما بعد الصراع، فان الدبلوماسية تستعيد نشاطها مرة أخرى ، حيث تتخذ وضعا جديداً طبقا للنتائج التى انتهت إليها المرحلة الفاصلة، لكنها بوجه عام تسعى إلى التقليل من خسائرها أو التعظيم من مكاسبها طبقا لموقف كل طرف ، أو محاولة منع تجدد نشوب الأزمة فى حالة تجمدها وذلك بإتباع نفس وسائل المرحلة التمهيدية، فى دبلوماسية تتكيف مع النتائج مع محاولة تحسينها بكل الوسائل المتاحة (دون الوسائل العسكرية بالطبع وإن كان التهديد بها يكون واردا إذا كان ذلك يخدم أغراض هذه الدبلوماسية ، وإذا كان التهديد له درجة كبيرة من المصداقية) .
من المهم أن نوضح أن «الأزمة» تختلف عن «الصراع» ولأغراض هذا المقال نكتفى بتوضيح أن الأزمة هى مرحلة من مراحل الصراع ، أى أن الصراع قد يبدأ قبل الأزمة ، وقد يتضمن سلسلة من الأزمات ، ولذلك قد يستمر إلى ما بعد انتهاء الأزمة ، ولكنه قد ينتهى بانتهاء أزمة حاسمة فى تاريخ الصراع ، ونحن هنا نتبنى وجهة النظر بأن الأزمة الحاسمة فى المفاوضات المصرية / الإثيوبية / السودانية لم تتخذ شكل الصراع حتى الآن، ولكننا لا نجزم بأن إنتهاء الأزمة سيؤدى بالضرورة إلى إنتهاء الصراع لأسباب تتجاوز موضوع هذا المقال .
وطبقاً للعرض النظرى السابق ، فأنه من الواضح أننا لا نستطيع أن ندرج الأزمة المصرية / الإثيوبية فى المرحلة التمهيدية للأزمة بشكل مطلق، أو المرحلة النهائية ، فهى ليست فى المرحلة التمهيدية لأن عناصر الخلاف موجودة ومعروفة ومحددة، ولأن الأطراف قد تجاوزوا مرحلة عرض المواقف التفاوضية ، كذلك لا يمكن أن ندرج الأزمة فى المرحلة النهائية، فهى لم تصل إلى حد الاقتراب من الصراع العسكرى ، وأن كانت الأزمة الحالية لم تتجمد، ومازالت فى مرحلة التصعيد .
إذن فالمرحلة الحقيقية للأزمة تقع فى المرحلة الفاصلة ، حيث يتزايد تصلب الأطراف فى مواقفها، وتتضاءل تدريجياً فرصة وجود مخرج يحافظ على ماء وجه أى منها ، ومن الواضح انعدام وساطة فعالة لأسباب تتعلق بالوسيط (السودان) أو بالأطراف أو بهم جميعاً.
استطرادا لذلك فإن دور الدبلوماسية المصرية ينبغى أن يتركز فى محاولة إدارة الأزمة وذلك من خلال حصرها وعدم السماح بتشعبها ، وإجراء الدراسة الدقيقة لأوضاع القوة فى الموقف الأثيوبى للنظر فى تعديل المطالب والشروط تبعاً لهذه الدراسة، مع الاستمرار فى دور الدبلوماسية التقليدية.
إلا أن الدراسة المطلوبة فى هذا الصدد لا ينبغى أن تقتصر على التركيز على حسابات أوضاع القوة المجردة (أى مقارنة القوات وقوة النيران) وإنما المقصود هنا هو مجمل أوضاع القوة فى المواقف التفاوضية كلا الطرفين ، فرغم التفاوت الواضح فى أوضاع القوة العسكرية بين الطرفين لصالح مصر ، إلا أن الموقف التفاوضى لإثيوبيا لا يزال يتميز أيضاً بعناصر واضحة من الضعف، فلا يمكن إغفال أن مصر لم تستخدم حتى الآن أدواتها القانونية والدبلوماسية بشكل كامل ، والاحتمال الأكبر هو إمكانية اجتذاب المجتمع الدولى إلى جانب الموقف المصرى إذا أحسنت الدبلوماسية المصرية العمل بمهارة أيضاً على الصعيد الإقليمى .
نظرة فاحصة للأوضاع الحالية تشير إلى أن الجانب المصرى قد فقد المبادأة التى احتفظ بها خلال المراحل المختلفة للأزمة على مر عشرات السنين ، حيث سلم بالاعتماد المطلق على حسن نية المفاوض الإثيوبى ، وقدم فى سبيل ذلك تنازلات تفاوضية مهمة خاصة فى العامين الأخيرين .
نخلص من كل ما تقدم إلى أن الأزمة الحالية بين مصر وإثيوبيا لا تزال تعبر مرحلتها الفاصلة ، وأن كل طرف يعمل على تحسين موقفه التفاوضى تحسباً لدخول المرحلة النهائية، لذلك قد تحاول إثيوبيا أن تهرب إلى الأمام من خلال استخدام تكتيكات المماطلة وكسب الوقت، وربما لجأت فى مرحلة أخرى لتوسيع وتشعيب الأزمة ومحاولة إقحام باقى دول الحوض ، وهو ما يقتضى من المفاوض المصرى أن يحتفظ بالأزمة فى حدودها الحالية، والتوقف تماما عن تقديم أى تنازلات إضافية، مع التحرك النشط على المستوى الدولى والإقليمى لزيادة حصار وإضعاف الموقف التفاوضى الاثيوبى ، مع الحفاظ على غموض عنصر الحل العسكرى واستخدامه بمهارة فى إطار إستراتيجية التفاوض .
كل ذلك يقتضى أيضاً عدم الانصياع لتلك الأصوات المشبوهة التى تحاول دفع المفاوض المصرى على الانبطاح، من خلال خلط الأوراق والمراحل، حيث تذهب بعض هذه الأصوات إلى الخلط بين الصراع والأزمة، أو التسليم بأن الأزمة قد وصلت إلى مرحلتها النهائية وبأن مصر هى الطرف الخاسر الذى يجب عليه تكييف وضعه طبقا لحجم الهزيمة ..
أردت أن أقول ان حجم المأزق المصرى هو نفسه حجم المأزق الاثيوبى، وأن مهارة الأطراف فى استخدام الأوراق المتاحة لها هى وحدها التى ستحدد شكل وطبيعة المرحلة النهائية للأزمة الحالية وربما للصراع .
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة