منذ شهور قليلة حصدت لجنة تنمية «ضمائر» المواطنين سخرية جمة على مواقع التواصل الاجتماعية، إلى أن أزاحها ما زاد عليها طرافة من أخبار
منذ شهور قليلة حصدت لجنة تنمية «ضمائر» المواطنين سخرية جمة على مواقع التواصل الاجتماعية، إلى أن أزاحها ما زاد عليها طرافة من أخبار. لم نكد ننسى تلك اللجنة التى اقترحها مجلس العلماء والمستشارين الرئاسيين، حتى اقتحمت أبصارنا ومسامعنا حملةٌ عنوانها: «أخلاقنا». رأينا حفل تدشين يقف فيه أساتذة كبار وعلماء كبار. كبار السن والمقام. منهم أصحاب معرفة علمية واسعة، ومنهم أرباب فقه ودين.
انتشرت لافتات الحملة على الكبارى وفى الشوارع تدعو إلى قيم مثل التعاون والتسامح والمبادرة. استخدم القائمون على اختيار شعاراتها ضمير الجمع «نحن»، لكننا لم نعرف على وجه التحديد على من يعود؛ فالدولة التى تظهر قائدا رئيسيا لعملية استعادة الأخلاق الحميدة، لا تنفك تأتى بعكس ما تعلنه وتدعو إليه.
يقال إن الضمير هو قدرة الإنسان على التمييز بين الصواب والخطأ، الحق والباطل، وهو منشأ مشاعر الذنب والندم، مع ذلك فإن هذه الأمور جميعها تغدو نسبية، إذ تخضع لمنظومة القيم التى يتبناها كل شخص وفقا لنشأته وبيئته. صورة بليغة اجتذبت الأنظار لامرأة عادية، حملت لافتة ووقفت بها فى الشارع عقب حادث مقتل الشاب الإيطالى الذى لم يمكث فى القاهرة سوى أشهر معدودة. كتب على اللافتة: «بتقتلوا الأجانب ليه؟ هو احنا قصرنا معاكم فى حاجة؟» أخلاق المرأة فى نظر المسئولين قد تحتاج إلى تهذيب وإصلاح، فهى ترمى إلى تزايد قتلى المصريين على يد النظام، لكن المرأة نفسها فى نظر آخرين ــ وأنا منهم ــ تستحق جائزة الشجاعة والحصافة ونبل التضامن مع المكلومين.
جذب انتباهى عنوان نشرته الجرائد اليومية عن بكاء الرئيس السابق مبارك لدى إدانته فى قضية القصور الرئاسية. سبب البكاء كما ورد على الصفحات هو نوع التهمة. قيل على لسان مبارك إن الاتهام بقتل المتظاهرين مقبول، أما السرقة فأمر لا يحتمل. السرقة فى عرف الحاكم المتنحى إهانة، أما القتل فربما عنوان للقوة والقدرة والسيطرة، لا يقتضى ندما ولا دمعا. منظومة قيم تبدو مختلفة، لكنها تعكس فى الوقت ذاته خصوصية ما يقر فى صدور أصحاب السلطة على اختلاف الأسماء والأشكال.
***
يقيم المرء نفسه عبر ضميره، فإذا كان محيطه مكتظا بما هو سلبي، قابلا لمساوئه دون مراجعة ولا حساب، لم يعد الضمير منبعا للتوبيخ وتصويب الاتجاه، وعليه امتلأ الثوب بالثغرات. ثمة أمثلة كثيرة تعكس التناقض بين ما يسير عليه النظام وما يطلبه من الناس، بدءا من أتفه الأمور وصولا إلى أعظمها. تقوم الحكومة على سبيل المثال بتعلية الأرصفة، ولا تعبأ فى فعلها هذا بملايين العجائز والشيوخ وأصحاب الاحتياجات الخاصة، وكأنها لا تدرك حتى وجودهم، وهى من ناحية أخرى تطالب المواطنين فى لافتاتها بالرحمة والإحساس بالآخر! تحتكر بعض مؤسسات الدولة عمليات الحفر والرصف والتشييد، وتتفاخر بسرعة الإنجاز، بينما تتراجع عوائد مشروعاتها التى لا تبدو مدروسة بما يكفى، لكنها لا تستنكف أن تطالب المواطنين بالإتقان. الظلم عنوان رئيسى، تبرزه عشرات الحوادث ومنها ذاك الثمن الرخيص لطبيب أهانه وضربه ضابط حتى مات، ولم يعاقب القاتل سوى بالسجن لثمانى سنوات، لكن الحكومة تحث الشعب على العدل والإنصاف.
تكذب الحكومات المتعاقبة كثيرا. كذبت حول علاج أكباد المصابين ثم تخلت عنهم، وكذبت حول عدم رفع أسعار المواصلات العامة ثم أعلنت رفعها، وكذبت حول سفينة ادعت إنشاءها فى الترسانة المصرية ثم اتضح أنها أوروبية الصنع وغيرها الكثير. منعت النشر فى قضايا تهم الرأى العام، وضربت بمبدأ الشفافية عرض الحائط، ولم تعتذر عن كذبها ولا عن تجاوزها للدستور فى عديد الأحوال، وفضلت عدم المواجهة وتعففت عن الاعتذار، لكن أخلاق الشعب المنفلتة بقيت على رأس المسائل التى تؤرقها، وتقض مضجعها وتدفعها إلى صوغ العبارات المؤثرة وحشد وسائل الإعلام ورفع اللافتات هنا وهناك.
يسعى النظام إلى إقناع الشعب بأن الأزمة متمركزة فى أخلاقه المتدنية بطبيعتها لا فى سواها من العلل والأسباب، ويريد من الجماهير العريضة أن تصدقه وأن تسمع وتطيع مثلما فعلت من قبل، فيما يتجاهل نصائح أهل العلم والخبرة كونهم معارضين، ويهمش أصواتهم حتى ليهاجر منهم من كان سعيد الحظ وينعزل آخرون متأسين على أنفسهم، وكأننا نعيد إنشاد ما قال الجرجانى منذ زمن بعيد:
كبر على العلم لا ترمه ومل إلى الجهل ميل هائم
وعِش حِمارًا تعش سعيدا فالسعد فى طالع البهائم
***
سخر المتواصلون فى فضاء الفيس بوك من اللجنة والحملة على حد سواء؛ لا لأن الأخلاقيات والضمائر تعيش أزهى عصورها، بل لأن ثمة إحساسا عاما بأن رب البيت يضرب بالدف وعلى ضرباته يرقص الجميع غير ملومين، فأسهل طرق التعليم هى النمذجة، أى وضع نموذج مثالى لما يراد إكسابه للناس. وإذا كان النموذج الناجح، الممثل فى أهل السلطة مفتقر كما يبدو إلى الإيجابى من القيم، فربما يجدر التساؤل حول الوسائل البديلة التى سيلجأ إليها دعاة الأخلاق الجدد.
على كل حال لا أظن أن الناس قادرون على اتباع قيم مثل العدل والإنصاف وما فى حكمها بين بعضهم بعضا، بينما يذيقهم النظام علقم الجور والإجحاف، ولا أظن أيضا أن الطبائع والخصال السلبية قد تتبدل بقراءة لافتة، يدرك مشاهدوها أن من أمر بكتابتها ورفعها وزين بها الطرقات والساحات لا يكترث لما جاء فيها. يقول أبى الأسود الدؤلى وهو خير ختام:
ابْدأْ بنفْسك فانْهها عنْ غيــــــــــــــــــــــــــــــــها فإذا انْتهتْ عنْه فأنْت حكيم
لا تنْه عنْ خلق وتأْتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي مثْله عارٌ عليْك إذا فعلْت عظيـــــم
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة