ميريل ستريب في "برليناله".. نأيٌ بالنفس يشِي بالعنصرية
تهرّب ميريل ستريب، من سؤال التعدّديّة والتنوّع وموقفها من العالم العربي وإفريقيا واللجوء، أثار الدهشة والامتعاض.
يُشكِّل الكلام الأخير للممثلة الأمريكية ميريل ستريب (1949)، في أول مؤتمر صحافي تعقده كرئيسةٍ للجنة تحكيم المسابقة الرسمية الخاصّة بالدورة الـ 66 (11 ـ 21 فبراير/ شباط 2016) لـ "مهرجان برلين السينمائيّ الدوليّ (برليناله)"، محطة أساسية تكشف موقع شخصيات غربية عامة إزاء "مسألة الآخر" في المجتمعات الأوروبية والأمريكية، وأيضًا إزاء مسائل إنسانية مختلفة، مرتبطة بشؤون الناس والتحوّلات التي يعيشونها في أنحاء مختلفة من العالم.
كما يُشكّل لحظة تأمّل في الموقف المُعلَن لشخصيات كهذه، إزاء أسئلة ثقافية ـ إنسانية ـ أخلاقية، مطروحة حاليًا في أوروبا والغرب، نتيجة السؤال الجوهري الراهن: اللاجئون العرب والأفارقة.
لكن هذا كلّه يُختَزل بعنوان واحد هو "العنصرية"، التي تغرق فيها أوروبا والغرب، والتي تنبع من مسائل متفرّقة لن يكون موضوع المهاجرين واللاجئين العرب والأفارقة الوحيد فيها. فما تقوله ميريل ستريب، وإنْ يُعبِّر عن مأزق أخلاقيّ يتّسع تدريجيًا في عالم الثقافة والفنون الغربية، يأتي في لحظة اشتداد النزاع الكلاميّ بين الأقليات الأفروأمريكية والمؤسّسات السينمائية الأساسية في هوليوود، على خلفية تغييب ممثلين وممثلات سود عن اللائحة الأخيرة للترشيحات الرسمية لجوائز "أوسكار 2016".
ميريل ستريب -المستاءة أصلًا من ممارسات "عنصرية" هوليوودية إزاء المرأة في مسائل الأجور (تتقاضى الممثلة أقلّ مما يتقاضاه الممثل، وأحيانًا عديدة "أقلّ بكثير")، وأنواع الأدوار والشخصيات الممنوحة لها (بحسب الأعمار، إذ تخفّ نسبة التعاون مع الممثلات الأكبر سنًّا، وهذا ما لا يحدث مع الممثلين الرجال غالبًا)، وحجم الحضور في الأفلام والصناعة السينمائية معًا (أدوار النساء تكون، عادةً، أقلّ حضورًا في الفيلم بحدّ ذاته، إنْ لم يكن فيلمًا "نسائيًا" برمّته، كما في مجمل النتاجات السينمائية سنويًا)- "تتباهى" بأن لجنة تحكيم الدورة الـ 66 للـ "برليناله" ـ المؤلّفة أصلًا من "أوروبيين بيض" (الممثل الألماني لارس أيدينغر، والناقد الإنجليزي نك جايمس، والمصوّرة الفرنسية برجيت لاكومب، والممثل الإنجليزي كلايف أوين، والممثلة الإيطالية ألبا رورواتشر، والمخرجة البولونية مالغورزاتا سزوموفسكا) ـ تأكيدٌ بأن النساء "موجودات" في التشكيلة، "بل إنهنّ مهيمنات".
تُضيف أن هذا "لا يحصل غالبًا"، وأنها ترى في موقف المهرجان "تقدّمًا ملحوظًا بالنسبة إلى وجهة النظر هذه".
المثير للدهشة والامتعاض لدى كثيرين كامنٌ في "تهرّبها" الواضح من الإجابة على سؤال آخر يطرحه صحافيّ عليها حول موقفها إزاء ما يحدث في العالم العربي وإفريقيا وكيفية "تفهّمه" والتعاطي معه، تمامًا كـ"تهرّبها" من سؤال سابق عليه، يتناول طارحُه فيه موضوع التعدّدية والتنوّع وموقفها منهما، على ضوء ما يجري في هوليوود عشية الإعلان النهائيّ للجوائز الرسمية لـ"أوسكار"، في 28 فبراير/ شباط 2016.
فأسئلة كهذه تنسجم والموقف المُعلن لإدارة الـ "برليناله" إزاء مسألة المهاجرين واللاجئين، المتمثّل بدعوة ضيوف الدورة الـ 66 هذه إلى "التبرّع لأشخاص يتعرّضون لصدمات نفسية بسبب التعذيب والحرب والهجرة والاضطهاد"، مشيرةً إلى أنها توزّع صناديق لتلقّي هبات مادية في محيط مقرّها القائم في حيّ "بوتسدامر".
كما أنها ستختار ما بين 10 و20 لاجئًا، "لتمضية فترة محدّدة في مكاتبها وكواليسها، بغية التعرّف إلى قيادات المهرجان وأساليب عمله".
تهرّب ميريل ستريب من سؤال التعدّدية والتنوّع متمثّل بإجابتها المختصرة عن حضور النساء في لجنة التحكيم.
لكن تهرّبها من الردّ المباشر على سؤال موقفها من العالم العربي وإفريقيا، فأكثر إثارة للدهشة والامتعاض: "أمثِّل شخصيات مختلفة، تتحدّر من ثقافات مختلفة.
نواة الإنسانية تتحرّك عبر الثقافات كلّها. بعد كل شيء، ألسنا جميعنا أفارقة في الأصل؟".
بحسب وكالة "أسوشايتدبرس"، تتوجّه ميريل ستريب إلى جمهور الـ "برليناله" قائلةً لهم: "حقيقة، نحن جميعنا أفارقة". بينما تعيد "فارايتي" نشر أقوالها بطريقة مختلفة، إذ "تصوغ" قولها هذا بما يلي: "نحن جميعنا أفارقة، نحن جميعنا برلينيون"، كإشارة إلى الجملة الشهيرة للرئيس الأمريكي جون كينيدي: "أنا برليني"، التي يُطلقها في خطاب يُلقيه في برلين الغربية في 26 يونيو/ حزيران 1963، بمناسبة "الاحتفال" بالذكرى الـ15 على بداية "حصار برلين" (24 يونيو/ حزيران 1948) من قبل المعسكر السوفياتي، وهو الحصار المُمَهِّد لإقامة الجدار بدءًا من ليل 12 ـ 13 أغسطس 1961.
تُسأل عن التنوّع، فتجيب متباهية بحضور النساء في لجنة التحكيم.
تُسأل عن الوضع الإنساني العام في العالم العربي وإفريقيا، فـ"تُهرول" باتّجاه أصل البشرية، متكئة على قولٍ قديم يصلح في خطاب سياسي آنيّ. المأزق لم يعد أخلاقيًا فقط، لبلوغه مرتبة ملتبسة من الإنكار والتغاضي، أو ربما الضياع إزاء مسائل حسّاسة كهذه.
العالم كلّه يعيش ارتباكًا كبيرًا بسبب اللاجئين، فإذا بشخصية عامة كميريل ستريب تتنصّل من وضوح العبارة، إنْ تكن العبارة إيجابية أو سلبية.
هوليوود تمارس عنصريتها ضد السود والنساء والأقليات، فإذا بستريب -التي لم تتردّد عن التهجّم عليها بسبب "غياب التنوّع" في النتاجات السينمائية والتلفزيونية- تنأى بنفسها عن موضوع يُشكّل تحوّلًا "متنوّعًا" في المسار الحياتي للبشرية والإنسانية معًا، ثقافيًا وحياتيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا وماديًا.
"تُبدِّل المواضيع وفقًا لأهوائها. لا تريد إجابات مباشرة. تُسأل عن التنوّع، فتتحدّث عن موقع النساء. تُسأل عن الثقافات الأخرى، فتضع النقاش في مستوى أوسع للإنسانية". بهذا، يُختصر المناخ العام للمؤتمر الصحافي لميريل ستريب.
اختصار يطرح، بدوره، أسئلة أخرى: هل يتوجّب على الشخصيات العامة كلّها أن تمتلك موقفًا إنسانيًا أو أخلاقيًا إزاء مسائل تعانيها البشرية حاليًا؟ ألا يُمكن القول إن "تهرّب" ميريل ستريب من الإجابة الواضحة والمباشرة والصريحة "جوابٌ" من نوع آخر على أسئلة لا تجد نفسها معنية بها؟ ألا يحق لـ"نجومٍ" أن يختاروا ما يريدون من القضايا العامة ليكونوا ناشطين من أجلها، ومدافعين عنها؟