عادت تدق طبول الحرب العالمية الثالثة، حرب لا أحد مستعدا لها، ولا يريدها، وإن نشبت فسيكون السبب هو الفوضى العارمة في العلاقات بين الدول
عادت تدق طبول الحرب العالمية الثالثة، حرب لا أحد مستعداً لها، ولا أحد يريدها، وإن نشبت فسيكون السبب هو هذه الفوضى العارمة في العلاقات بين الدول، إقليمية كانت أم دولية. التهديد الذي أطلقه رئيس الوزراء الروسي ميدفيديف بينما يناقش وزراء دفاع الناتو فكرة التدخل في حرب سورية لا يجب أن يؤخذ إلا على أنه تحذير للغرب والعرب من أن الساحة السورية لم تعد تحتمل أجانب على الأرض أكثر مما هم فيها الآن، وأن إضافة جيوش جديدة تؤدي حتماً إلى أخطاء في حسابات القادة العسكريين، تؤدي بدورها إلى صدامات غير متوقعة ولا مطلوبة. الحرب العالمية يمكن أن تنشب بينما العالم إذا استمر تدهور الوضع في الشرق الأوسط على ما هو عليه، حالة حرب الجميع ضد الجميع، هذه العبارة التي وردت على لسان زعيم روسيا لا يجب أن نأخذها كإهانة للعرب، بقدر ما يجب أن نعتبرها تحذيراً من رئيس دولة عظمى إلى زعماء دول إقليمية بأن الفوضى الناشبة في الشرق الأوسط سوف تتسبب في تدمير ما حققته شعوب المنطقة من تنمية أو تقدم.
تكشف تصريحات قادة روسيا والناتو والتصريحات الأخيرة لوزير دفاع أميركا عن أن مرحلة مهمة في الوفاق الروسي الغربي تكاد تصل إلى نهايتها. نذكر جيداً كيف تطورت العلاقات بين الغرب وروسيا في أعقاب نهاية الحرب الباردة. جاءت فترة تبادل فيها الطرفان إجراءات بناء الثقة، فلا حرب ولا تهديد بحرب ولا استعداد مكثف لها. تعهد الناتو بأن لا يقيم قواعد في دول أوروبية شرق خط انهار أودر/ نس/ دانوب، وتعهدت روسيا بعدم التدخل في شؤون هذه الدول، بمعنى آخر تعهد الطرفان الروسي والغربي بأن يكون التنافس على شرق أوروبا سلمياً وأن لا تسعى دول الناتو إلى إقامة علاقات تهدد أمن روسيا ومصالحها. ثم تغيرت الأوضاع في أوروبا كما في غيرها من أقاليم العالم، توقفت إجراءات بناء الثقة، استأنف الغرب محاولات جديدة لجذب دول شرق أوروبا للانضمام لمنظماته مثل الاتحاد الأوروبي وإقامة علاقات مع حلف الناتو، وعادت روسيا تضغط على هذه الدول وتتدخل في شؤونها بعد أن تأكدت من أن الغرب، وبالتحديد الولايات المتحدة، لم يتوقف عن التدخل. كذلك انتهت مرحلة الشفافية العسكرية بين الناتو وروسيا، وضعفت الثقة وتعددت التهديدات المتبادلة، وفي عام ٢٠٠٨ أعلنت روسيا وقف العمل باتفاقية الحد من الأسلحة التقليدية، وعادت تنظم مناورات عسكرية واسعة من دون استئذان مسبق من الناتو كما قضت الاتفاقية، هذه التطورات وغيرها عجلت بوقوع خلل في التوازن الاستراتيجي بين الغرب وروسيا، وبخاصة بعد أن أصبحت القوات الروسية أكثر قدرة على الحركة وأسرع في حشد القوات في شكل يسمح لروسيا بمفاجأة الغرب عسكرياً في أي مكان في شرق أوروبا قبل أن يجد الوقت اللازم لصد الهجوم المقبل من روسيا.
تصور كثيرون أنه في ظل التوتر القائم والمتصاعد بين روسيا والغرب، أن تخرج من اجتماعات الناتو الأخيرة في بروكسيل واجتماعات قادة الأمن والدفاع والسياسة والخارجية، خطط وبرامج تتمتع بالصدقية اللازمة لإقناع شعوب أوروبا الشرقية، وبخاصة دول البلطيق الثلاث وبولندة بجدية الناتو في استعادة الثقة والاطمئنان إلى القارة. خاب أمل من امتلك هذا التصور حين اكتشفوا أن قادة الناتو قرروا تكليف ثلاث سفن صغيرة مراقبة وتتبع المراكب والقوارب التي تحمل لاجئين من السواحل التركية إلى اليونان في بحر ايجة، والهدف هو كشف حقيقة وطبيعة التجارة في البشر. تقرر أيضاً، وهذا قرار مهم شكلاً، زيادة عدد قوات الناتو التي «تزور» دول شرق أوروبا وتقيم فيها فترات قصيرة بالتناوب. هذا القرار كان القصد منه توجيه إشارة إلى موسكو بأن الناتو غير مستعد بعد لتصعيد التوتر من طريق إقامة قواعد دائمة في تلك الدول، ولكنه تحت الضغط من جانب دول شرق أوروبا يجد نفسه مضطراً لرفع درجة استعداداته، كذلك انضمت أميركا إلى هذه الجهود المتواضعة بإعلان آشتون كلارك وزير دفاعها بأن بلاده سوف تضيف زيادة مالية محدودة في موازنتها المخصصة للإنفاق على قواتها في أوروبا، ولم يذكر أنه قرر زيادة عدد الجنود الأميركيين في أوروبا، وهو العدد الذي لا يتجاوز ٣٠٠٠٠ جندي بعد أن كان خلال الحرب الباردة يتجاوز ٣٠٠.٠٠٠. بمعنى آخر، وفي ظل حل التوتر الشديد من روسيا والناتو، لم تحاول إدارة أوباما إدخال تغير ولو بسيط في سياستها الدفاعية الدولية، بل على العكس أصرت على تأكيد استمرار خطة التهدئة في أوروبا والانسحاب المتدرج من المسؤوليات الأطلسية.
من المهم بمكان الاعتراف بأن الصراع على سورية، أو في سورية، بات يؤثر في العلاقات عند القمة الدولية بأكثر مما أثرت أزمة أوكرانيا. أوكرانيا، ساحة محرمة عسكرياً على الغرب بحكم التصاقها بروسيا، مثلها مثل غيرها من مساحات الجوار الروسي. أما سورية فساحة مختلفة. سورية ساحة مفتوحة لكل من شاء أن يدير فيها صراعات إقليمية أو دولية، ولكل من شاء أن ينشب فيها حرباً طائفية أو مذهبية أو أيديولوجية. الساحة في سورية تعج بالفعل بالمغامرين من كل جهة وتوجه. بات جائزاً لدول الإقليم، والدول الكبرى، أن تجند أو تؤجر ما شاءت من مرتزقة ودول محتاجة، لتتحارب في ما بينها شرط ألا تجر معها الدول الممولة والمخططة إلى ساحات القتال.
حتى أنه حين قررت الدول الكبرى تشكيل حلف عسكري من عشرات الدول لمحاربة «داعش»، لم تحاول دولة واحدة من هذه الدول النزول بقواتها إلى الأرض. استمرت الحرب بالقصف البحري واقتتال بين ميليشيات وحكومة دمشق مولتها بنفسها ومع أطراف خارجية أخرى.
إلا أنه عند اللحظة التي أعلنت فيها دول بعينها عزمها انزال قوات برية على أرض سورية، ثم عندما خرج مسؤول في حلف الأطلسي يعلن عزم الحلف التدخل في الحرب، لم تسكت موسكو، وما كان يمكن أن تسكت. موسكو، كغيرها من العواصم التي أرسلت طائراتها إلى أجواء سورية بحجة محاربة «داعش»، لم تجعل «داعش» هدفها الوحيد، كان هدفها دعم نظام الحكم في دمشق تماماً كما كان لعواصم أخرى أهداف أخرى. تدرك موسكو أن ساعة الحسم بالنسبة إلى مستقبل سورية قد حانت، وهي أيضاً ساعة الحسم بالنسبة إلى لمكانة روسيا الدولية وساعة رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط. خريطة تتضمن إعادة تعريفه وتحديد حدوده الخارجية والداخلية وتوزيع مناطق النفوذ فيه. الأمر المؤكد والواضح في أذهان صانعي السياسة في روسيا، أن موسكو يجب أن تكون «طرفاً مؤسساً» في بناء نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، وأنها لا يجوز أن تضيع الفرصة لتثبيت مواقعها التي استثمرت فيها كثيراً، ولن تسمح لأطراف إقليمية أو دولية بأن تستغل الإرهاب، و»داعش» في شكل خاص، لإخراج روسيا من سورية والانفراد بصنع هوية جديدة لسورية، ومن خلال هذه الهوية السورية الجديدة صنع تعريف جديد للشرق الأوسط.
لا أظن أن روسيا ستتراجع أو تتنازل عن أي مكسب إقليمي جنته من وراء حملتها «الجوية» في سورية، قد تكون في حاجة إلى فترة قصيرة أخرى، شهر مثلاً، لتفرض أمراً واقعاً جديداً في سورية، ومن خلاله تفرض مستقبلاً لها في الشرق الأوسط. الصراخ الصادر من أنقرة سواء بهدف تحفيز دول الاتحاد الأوروبي والناتو على تصعيد التدخل في سورية لن يجدي، ولن تجدي كذلك محاولات مقايضة اللاجئين السوريين المحتجزين لديها بموقف أوروبي وعالمي معادٍ للأكراد عموماً والسوريين بخاصة، ولن تجدي مشاعر المرارة الشديدة لدى حلفاء أميركا والمنطقة، وإن كشفتها عبارة أردوغان الشهيرة «واسألوا السعودية». فالواضح أن الناتو والدول الغربية منفردة ومنها أميركا، ليست مستعدة بالدرجة الكافية للانسياق وراء قوى إقليمية في مغامرة قد تفضي فعلاً إلى حرب عالمية ثالثة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة