فى البدء كان هناك سلطان وتاجر وتمساح. التاجر«ود الزبير» كان واحدا من هؤلاء الثلاثة، لا يعرف إن كان للآخرين أسماء أم لا، فالصلة بينهم لم تنشأ إلا فى لحظات عابرة، وسط مكان ناء، يبدو من فرط عزلته كأن لا وجود له. غابات من خضرة عميقة، وأشعة من ضوء مقطر كالسراب، ورطوبة خانقة، لا يخترق صمتها إلا ذباب طنان، لا يترك ضحاياه إلا تحت سطوة كوابيس المرض، ويبقى اللقاء بين ثلاثتهم مجرد مصادفة عبثية. وسط أحراش ومستنقعات ممتدة بلا أفق، تدعى بحر الغزال، عالم لم ترسم خرائطه بعد ولم يخرج من ظلمة المجهول. ولكن المشكلة أن سلطان الدنكا قد أهمل «ود الزبير» لمدة ثلاثة أيام كاملة، رغم أن التاجر يعرف الأصول، أرسل إليه ليعلمه بوصوله، واستأذنه حتى ترسو سفينته على حافة مملكته.
هكذا يفتتح محمد المنسى قنديل روايته الملحمية «كتيبة سوداء» لتكون واحدة من روايات خطاب ما بعد الاستعمار، أو خطاب نقض الاستعمار على السواء، مركزة الأضواء على الجرائم اللاإنسانية الكبرى التى ارتكبها الاستعمار الاستيطانى فى حق أبناءالشعوب المستعمرة، مستغلا إياهم فى حروب تحقق مصالحه وهيمنته الكولونيالية، فى عالم من التحولات التاريخيةالتى شهدت أفول سنة 1867، حيث تبدلت مصائر شعوب وإمبراطوريات على السواء.
ويعنى ذلك أن رواية زكتيبة سوداءس رواية تاريخية بامتياز.
تعود إلى أحداث ووقائع وشخصيات تاريخية بعينها، ترى فيها مرايا للحاضر، أو موازاة رمزية له، ولكنها ليست مطالبة بأمانة المؤرخ إلا فى الأحداث والوقائع والشخصيات الأساسية، وفى المصائر الثابتة التى ذكرها التاريخ. أما فيما عدا ذلك فكله من ابتداع الخيال الروائى الذى يمزج بين التاريخى المعتمد والتاريخى المخترع فى ضفيرة سردية، تمتلك قدرة فنية على التشويق والإبهار وإثارة الدهشة والمتعة فى آن.
وتكمن المهارة فى قدرة الكاتب على مخايلة القارئ والتخييل له بأن كل ما يقرؤه قد حدث بالفعل، ولكن بما يحيل التصديق إلى تعجيب، والتعجيب إلى مساءلة عن المعنى أو المغزى فى مدى تحولات المصائر بالشعوب والأفراد، فى الدراما التاريخية التى هى دراما إنسانية بكل معنى الكلمة، وشأن كل دراما، هناك دائما المفارقة التى لا تخلو من سخرية الأقدار أو التاريخ نفسه، ذلك الفاعل المنفعل الذى تصنعه الأحداث التى يصنعها، وتحركه دراما القامعين المقموعين التى يرقبها بالقدر الذى يحرك به شخوصها.
هكذا تتركز عيوننا فى التطلع إلى ثلاثة عناصر تكوينية، يتكون منها بناء رواية «كتيبة سوداء» فى صياغتها الملحمية. هناك ـ أولاـ أبناء المستعمرات الذين يعملون فى خدمة الإمبراطوريات الاستعمارية، ويفرض عليهم الاستعمار أن يخوضوا حربه، خدمة لمصالحه، وتحقيقا لأغراضه الاستعمارية التى يساعدونه على تحقيقها دون أن يدروا، محاربين أشباههم من أبناء المستعمرات المستعبدة مثلهم، فكأنهم المقتولون القتلة أو المقموعون القامعون، وهذا هو حال أفراد الكتيبة السوداء التى يرجع أغلبهم ـ فى أصولهم الإفريقية ـ إلى أحرار، فرض عليهم أن يكونوا عبيدا بواسطة جشع تجار العبيد المتحالفين مع زعماء القبائل أو سلاطينها، مثل زود الزبير «وسلطان الدنكا».
وهناك استغلال أعلى تمثله الدولة الواقعة تحت سطوة الاستعمار بتحالف حاكمها مع قوى استعمارية بعينها مثل الوالى سعيد باشا الذى يستجيب إلى طلب ديليسبس رجل نابليون الثالث وقريب زوجه أويني، فيأمر بتشكيل كتيبة من العبيد الذين تحولوا إلى أنفار فى الجيش المصري، فى موازاة كتائب أخرى مثل الكتيبة الجزائرية التى لا تختلف أحوال تشكيلها جوهريا، وذلك لتحقيق الهدف نفسه، وهو مساعدة الجيش الفرنسى فى حربه ضد المقاومة التى يواجهها من أحرار المكسيك الذين يرفضون الحضور الاستعمارى الفرنسي.
ونرى الاستغلال الاستعمارى واضحا فى حرص الفرنسيين على أن يضعوا أبناء المستعمرات، وفى مقدمتهم الكتيبة السوداء المصرية، فى الصفوف الأولى ليكونوا دروعا بشرية للجنود الفرنسيين، فى نوع من الاستغلال المضاف، كأنه لا يكفيهم أنهم يضعون أبناء المستعمرات فى حرب ليست حربهم، مقاتلين من هم أشباههم، فى تراجيديا المقتولين القتلة.
هؤلاء المقتلون القتلة نراهم ممثلين فى شخصيات روائية، مجسدة من لحم ودم، نقابلهم، من اللحظات الأولى التى يبيع فيها سلطان الدنكا أربعين من أبناء قبيلته، مقابل بنادق معدودة، ويرحل بهم تاجر العبيد «ود الزبير» إلى الخرطوم لكى يبيعهم. ولكن حاكم الخرطوم يسلبه إياهم، لكى يرسلهم إلى القاهرة، لكى يكونوا نواة للأورطة التى ستتكون منهم ومن أمثالهم من فلاحى أسوان وجنوب مصر وبعض أبناء النوبة.
وعندما تكتمل الأورطة، تبدأ رحلتها إلى ثغر الإسكندرية، ومنها تواصل رحلتها إلى قدرها المجهول: بلاد المكسيك. ولكن قبل الرحيل، يجد العبيد من يعلمهم العربية. يقولون لهم لقد أصبحتم جنودا، أفضل قليلا من العبيد لكنهم يرتدون ملابس الجندية على الأقل... يلقون بهم على أرض المعسكر، يحصى الأومباشى أجسادهم المنهكة ليرى كم فقدوا، يقدمون لهم المياه والملح وبعض الطعام، ويكملون اختبارهم القاسى للدخول من بوابة «الجهادية» والاستعداد للرحيل إلى أرض جديدة. يحضرون لهم ثيابا جديدة، بيضاء وسميكة وباعثة على الدفء، حزاما جلديا وجرابندية وطربوشا داكن الحمرة... وأخيرا يصبحون أشبه بالجنود الآخرين الذين يحرسونهم ويوجهون البنادق إلى صدورهم. يحمل الباشجاويش سلة من الأسماء ويطلب من كل واحد فيهم أن يختار اسما سيلازمه مدى الحياة، كوكو سودان، عبد الخير إدريس، حديد فرحات، مرجان سليمان، سعيد طاووس، مرسال رجب، سلطان عبد الله، فرج وني، الفود محمد، بخيت بتراكي، محجوب حبيب، أسماء كثيرة. البعض منهم تمسك ببقايا الغابة ومزجها بالأسماء الجديدة. هكذا أصبح لهم وجود وحضورمختلف. وانضم إليهم جنود آخرون: رماة من أنحاء السودان، أفراد من قبائل تعيش على حدود الحبشة، فلاحون من جنوب مصر لم يتم اختطافهم، ولكن سيقوا بالسخرة. يستعدون كما قيل لهم لاستقبال الصاغ محمد أفندى ألماس. ضابط قصير القامة، متين الجسم، تشع منه مهابة غريبة، يهتف بهم جميعا: «حان وقت الرحيل، سنسافر جميعا شمالا إلى الإسكندرية حيث البحر العظيم، ثم تبدأ بعد ذلك رحلتنا الكبري».
وبالفعل تبدأ الرحلة الكبري، ولكن قبل أن تنقلنا الرواية إليها، ينقلنا السرد إلى العنصر التكوينى الثاني، وهو العصبة الاستعمارية ممثلة فى الأمير ماكسميليان وزوجه شارلوت وأخوه إمبراطور النمسا. فى علاقة تشابه بالإمبراطور نابليون الثالث وزوجه أويني. وغير بعيد عن هذا العنصر بابا روما فى الفاتيكان والكنيسة المكسيكية التابعة له والمشهورة بثرائها الفاحش والتى لها دور رئيسى فى تحريك الأحداث، خصوصا من حيث تحالفها مع الإمبراطوريات الموشكة على الأفول.
هذه العناصر التكوينية الثلاثة تتشابك لتصوغ نسيج الرواية على مستوى الحضور، مشيرة إلى غيرها من العناصر الموجودة على مستوى الغياب، حيث الأحرار من أهل المكسيك الذين ثاروا على استعمار الإمبراطوريات الآفلة بقيادة بنيتو خواريز الذى لا نراه فى الرواية، وإنما نسمع به أو نقرأ عنه فحسب.
وما بين علاقات الحضور(الأورطة السوداء، العصبة الاستعمارية، الكنيسة الكاثوليكية) وعلاقات الغياب (ثوار المكسيك، بقايا المواطنين الأصليين) يتحرك السرد فى الرواية بواسطة الراوى العليم بكل شيء، ولكن بما لا يخفى الحضور اللافت للراوى نفسه، سواء من حيث التعليق على الأحداث، خصوصا فى المواضع التى يريدنا هذا الراوى الالتفات إليها، وما ينبهنا إلى خطاب نقدى لا يخلو من التعليق الذى لا يخلو من سخرية ومرارة فى آن. (وللتحليل بقية).
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة