شاب مقبل على الحياة، يعتبر العالم فى كليته فينظر إلى نفسه على أنه جزء منه، تخصه شئونه ويعنى بتحسن ظروف حياة الإنسان فى كل مكان
شاب مقبل على الحياة، يعتبر العالم فى كليته فينظر إلى نفسه على أنه جزء منه، تخصه شئونه ويعنى بتحسن ظروف حياة الإنسان فى كل مكان، مثل هذا الشاب هو النموذج الذى يمكن أن ينبنى على أكتافه السلم والتعايش بين البشر. اهتمامات مثل هذا الشاب تتعدى الخصوصيات الوطنية والثقافية وهى تأكيد على وحدة البشر ودحض لكل من دعاوى التفوق الاستعمارى وحجج الخصوصية الثقافية، جاءت هذه من منظور الاستشراق أو من أطروحات الاستشراق المضاد عندنا الداعية صراحة أو ضمنا إلى الانغلاق. أن يجىء هذا الشاب من الدائرة الثقافية الأوروبية سبب للاحتفاء به، وأن يكون محل اهتماماته هو ذلك الفريق من البشر الذى سكن ويسكن مصر هو أدعى للاحتفال به فى بلدنا.
هذا الشاب هو جوليو ريجينى، الطالب القادم من إيطاليا الذى كان يحضِر رسالة علمية فى جامعة مرموقة دوليا بشأن مسألة سياسية مصرية. جاء إلى مصر ليجرى أبحاثه الميدانية فاختفى ثم وجد مقتولا شرَ مقتل، آثار تعذيب واضحة عليه. عثر من عثر على جثته نصف عارية وملقاة فى طريق صحراوى وكأنها قمامة فيما هو إهانة وازدراء بجنس البشر كله.
***
جريمة قتل جوليو ريجينى استرعت اهتمام الدوائر الأكاديمية فى العالم، وخاصة تلك منها المعنية بدراسات عالمنا العربى والشرق الأوسط عموما. جمعية دراسات الشرق الأوسط الأمريكية وجمعية دراسات الشرق الأوسط البريطانية وآلاف الأكاديميين بعثوا برسائل مختلفة إلى رئيس الجمهورية يعربون فيها عن صدمتهم، ويشيرون إلى وقوع الجريمة فى جو عام من التضييق على الحريات الأكاديمية، ويطالبون بسرعة التحقيق فى ملابسات مقتل الباحث الشاب، والكشف عن الجناة.
بلد القتيل، إيطاليا، قطعت وزيرة فيها زيارتها لمصر، وعلقت التوقيع على عدد من الاتفاقيات التى جرى الاتفاق عليها، وهى طلبت رسميا المشاركة فى التحقيقات وأرسلت بالفعل محققين لهذا الغرض، وهى نقلت الجثمان إلى إيطاليا وأجرى أطباء شرعيون فيها تشريحا ثانيا للجثة كشف عن أن القتل كان نتيجة مباشرة للتعذيب، ولم يكن فقط من آثاره التى تمثلت فى ضرب وحروق وقطع هنا وجروح هناك.
أوجب علينا نحن فى مصر، دولة ومجتمعا، أن نولى أقصى درجات الاهتمام لهذه الجريمة بالكشف عن ملابساتها والجناة الذين ارتكبوها، وبمحاسبتهم جنائيا على اختطافهم وتعذيبهم وقتلهم لنفس بشرية، وعلى ما ارتكبوه فى حق مصر، بلدهم. ونحن نولى أشد العناية لهذه الجريمة الشنعاء يجب أن نرتفع إلى مستوى المسئولية تجاه بلدنا وأن نعى الظروف التى وقعت فيها الجريمة وأن نفهم ردود الأفعال والغضب فى إيطاليا وفى الدوائر الأكاديمية فى العالم. رفض الشكوك التى يعبر عنها هؤلاء وأولئك لا يجدى فهو لن يثنيهم عن أن يعبروا عما يختلج فى نفوسهم. الشكوك تجد منطقها فى تفسيرات مؤسفة، إن لم تكن مخزية، لمقتل الباحث الإيطالى صدرت عن الأجهزة المعنية. أول ما قيل فى تفسير مصرعه هو أنه كان نتيجة لحادث سير.
وحتى بعدما ذاع خبر تعذيبه تعذيبا بشعا أفضى إلى مقتله صدر عن هذه الأجهزة ما يفيد شكها فى أن مأساته رجعت إلى رغبة فى سرقته. لولا الخجل من أن يأخذ المعلق مثل هذه الدعاوى مأخذ الجد لتساءل عن أى حادث سير هذا أو أى لص ذاك الذى يعذب ضحيته ليدهسها أو ليسرقها! هل سمع أحد عن سوابق لمثل هذا التعذيب؟ ثم دار إيحاء بأن القتيل كان «مثليا»، وهو لم يكن كذلك، لكى ترتد المسئولية عن مقتله إليه وحتى «يلوث» فى مجتمع محافظ مثل مجتمعنا المصرى. ولا يغيب لا عن المتابعين الأجانب ولا عن المصريين أن نفس الأجهزة التى فسرت التعذيب والقتل بحادث سير أو بسرقة، قبل سنوات ست اتهمت خالد سعيد بأنه قتل نفسه قبل أن تظهر حقيقة أنه قتل على أيدى عنصرين من عناصر حفظ النظام العام، وهم لا ينسون أنها فى العام الماضى اتهمت زميلا لشيماء الصباغ بقتلها قبل أن تظهر أيضا حقيقة وقوعها صريعة لرصاص واحد من المفترض فيهم حماية المواطنين وممتلكاتهم. ولا يمكن للمتابعين أن يتفادوا بعد ذلك المقارنة بين اتهام زميل شيماء الصباغ، من جانب، والشك فى الأيام الأخيرة فى عدد من أصدقاء الضحية الإيطالية ووضعهم تحت المراقبة لأنهم «لم يستطيعوا تحديد أماكن وجودهم فى 25 يناير»، من جانب آخر. مثل هذه التصريحات هى التى ينبغى رفضها رفضا قاطعا لأنها، لتهافتها، تثير الشكوك فيمن تصدر عنه وتعيد إلى الأذهان وبقوة ظروف البيئة العامة التى وقعت فيها الجريمة.
***
الضحية باحث فى الشأن السياسى المصرى يجرى بحثا ميدانيا فى موضوع شائك، والجميع يعلم إجراء الأبحاث الميدانية ولو بشأن أبسط الموضوعات فى مصر، سواء كان الباحث مصريا أو أجنبيا. ثم إن هذا الموضوع هو الحرية النقابية والنقابات المستقلة فى وقت شاع فيه صدور تعليمات بعدم تعامل أجهزة الدولة مع هذه النقابات وقصر معاملاتها على النقابات المسماة «بالرسمية» التى يكفل لها قانون النقابات السارى احتكار تمثيل العمال. أضف إلى ذلك، التضييق على دخول الباحثين الأجانب ورفضه للبعض منهم، ولو كانوا عربا، صار ممارسة معتادة. على الرغم من النفى الرسمى لوجود حالات اختفاء قسرى، فإن من الناس من يختفون بالفعل ثم يظهرون فجأة فى السجون أو لا يظهرون. وصول رئيس إحدى الجامعات إلى أن يعلن عن إلزام أعضاء هيئة التدريس بالحصول على موافقته للكتابة فى الصحف أو الظهور فى غيرها من وسائط الاتصال، وفى قول من الأقوال للمشاركة بأبحاث فى محافل علمية، هو حالة قصوى من الضيق بالرأى وبالتفرد وبالتعبير وبالبحث.
استدعاء خلود صابر، الباحثة النابهة، من الجامعة الأجنبية التى حازت منحة منها للتحضير للحصول على درجة الدكتوراه، وبعد أن حصلت على كل الموافقات، التى لا ينبغى أن توجد أصلا، هو مثال آخر على التعسف مع البحث والباحثين.
الأجواء العامة وسلوك الأجهزة المعنية فى مصر هى التى تفسر ردود الفعل الإيطالية والأكاديمية. مرة أخرى لا بد أن ندرك أن الحدث جلل وأنه يستحق منا كل الجدية. فإيطاليا هى الشريك التجارى الأول لمصر ومن أولى مصادر الاستثمار فيها والسياحة إليها. إيطاليا هى التى اكتشفت هيئتها الوطنية للمحروقات منذ شهور قليلة حقل الغاز الطبيعى العملاق فى المياه المصرية فى البحر المتوسط والذى تقدر سعته بـ30 تريليون متر مكعب، تعادل 5.5 بليون برميل من النفط. بعد اكتشاف الغاز هذه الهيئة هى التى ينتظر أن تستخرجه. إيطاليا هى التى يتفق منظورها مع الموقف المصرى الحالى من تسوية الأزمة الليبية. على الرغم من كل ذلك، رئيس الوزراء الإيطالى صرح بأن استمرار الصداقة يتوقف على الكشف عن الحقيقة. وإيطاليا فى قلب الاتحاد الأوروبى، أى عطب يصيب العلاقات معها، دولة ومجتمعا، ستكون له آثاره على مجمل العلاقات مع الاتحاد الأوروبى وبلدانه. الاتحاد الأوروبى فى مجموعه هو أول مصدر لوارداتنا وأول سوق لصادراتنا. فى إجمالى التجارة الدولية لمصر، الاتحاد الأوروبى يمثل 31.4% منها، بينما لا تمثل الثانية، وهى الصين الا 8.4%، والولايات المتحدة إلا 6.5%، والمملكة العربية السعودية إلا 4.6%.
***
المقام مقام جد كل الجد. أولا الواقعة جريمة تعذيب وقتل باحث شاب يبحث فى شئون مصر، وليست شئون أى بلد مقصورة على مواطنيها لأنه ليست للمعرفة أصل ولا جنسية. وثانيا الواقعة وملابساتها تتعلق بالمصلحة العليا لمصر والمصريين، ولكلا السببين ينبغى جلاؤها جلاء تاما أيا كان المذنب وراءها.
الكشف عن الحقيقة هو الذى يحفظ لمصر علاقاتها وللحكم فيها سمعته. للسمعة قيمة كبرى فى العلاقات بين الدول.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة