في الأزمنة الصعبة كهذه التي نعيش، يحسُن توجيه سهام النقد في المعارك السياسية والأيديولوجية إلى الخصم
في الأزمنة الصعبة كهذه التي نعيش، يحسُن توجيه سهام النقد في المعارك السياسية والأيديولوجية إلى الخصم. من الأفضل تسليط الأضواء على تناقضاته وعثراته وارتباك سلوكه السياسي وأكاذيبه، مقابل التقليل من شأن الأخطاء التي يرتكبها الفريق الذي ننتمي إليه أو نواليه والسعي إلى إبقاء أي حديث عنها ضمن دائرة مغلقة.
بيد أن سهولة المهمة الأولى، أي كشف ضلال العدو والتصويب عليه، تغري بالمبالغة في أدائها والمضي فيها إلى حدود الأبلسة الكاملة ونزع كامل الصفات الإنسانية والعقلانية عنه وإلحاقه بمعسكر الشر الخارج على أطر السلوك البشري السليم. وهذه ممارسة لها أساس راسخ في التاريخ ولا يكاد أي صراع شهده العالم يخلو منها، فالعدو متوحش ومتخلف وكافر ولاأخلاقي وقضيته غير عادلة وليس له من الصواب في خطابه أدنى نصيب. هو مهزوم سلفاً في الميدان الأيديولوجي من قبل أن يبدأ الصراع معه. مهزوم «بآخريته»، لأنه آخر، على ما كان يقول مهدي عامل.
تقدم لنا صحافة اليوم عروضاً مسهبة على هذه الحقيقة، ففي الوقت الذي يشعر فيه القارئ أن القوى التي يخاصمها مكونة من شياطين ومجرمين وقطاع طرق، يغفل تماماً عن أن هؤلاء ليسوا نادرين في الصف الذي يواليه، وأن من بديهيات الصراعات منذ ظهور آدم على الأرض توزع الحق والباطل على أطراف الصراع والتباسهما، ما يتيح اللجوء إلى أساليب لا تقل التباساً وشبهة. وثمة أجهزة ومؤسسات تتخذ من العمل في المناطق الرمادية بين الحق والباطل نهجاً ثابتاً لها من دون أن تضطر إلى تقديم مبررات أخلاقية إلى جمهورها، مستندة إلى ذرائعية سياسية محضة.
المهمة الصعبة تكمن في القدرة على رؤية موضوعية للصراعات الدائرة وارتفاع أو هبوط معانيها السياسية والقيم التي تخدم ومدى احتواء أهدافها على النبل أو الضعة. تبرز هنا مسألة ثانية: ما هي معايير النبل؟ ومن يحددها؟ وكيف يمكن اكتشافها والسير على هديها؟
الحال أن الثورات العربية قد فاقمت غموض هذه الأسئلة وزادت من صعوبة التمييز بين الأولويات. وفي مقابل الكمية الهائلة مما كُتب عن الثورات وتفاصيلها وخلفيات القوى المشاركة فيها وتلك التي عملت على قمعها وإجهاضها، نجد ضآلة لافتة للانتباه في تقييم المضامين السياسية للثورات.
واحد من أسباب هذه الندرة تعود إلى بعض من خجل مؤيدي الثورات من المآلات التي وصلت إليها (في طورها الحالي على الأقل، مع التسليم بأن الثورات عملية تاريخية طويلة المدى). خجل من كشف الثورات لعمق التصدعات في البنى الاجتماعية والاقتصادية العربية والعجز عم علاجها. وخجل من الاعتراف بالضعف الشديد للمشاركين في الثورات في دفعها نحو الخروج من هيمنة القوى التقليدية والخيارات المقفلة الموزعة بين العسكريين وبين الإسلاميين والعجز عن عقد مصالحات تاريخية بين مكونات المجتمعات العربية، ما دام انتصار إحداها على الآخر على طريقة الثورة الفرنسية، لا يبدو وارداً في الظرف الحالي.
توجيه النقد إلى أعداء الثورات العربية، المحليين والخارجيين، وتحمليهم أسباب الاستعصاء الحالي، يبقىان نصف الحقيقة، التي يجب البحث عن نصفها الآخر في أماكن أقرب من روسيا وإيران وأميركا. ولا ينقلب النقد الذاتي جلداً للذات إلا عند افتقار النقد إلى طريق للتحول إلى فعل سياسي ذي أثر على الواقع.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة