قبل أيام أصدر المركز واحدة من أهم الوثائق التي اشتغل عليها خلال السنتين الماضيتين بعنوان «وثيقة الوحدة الوطنية: مسودة مقترحة
يُسجَّل لـ «المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية» في رام الله مواصلته على مدار سنوات جهداً كبيراً في تحليل جذور الانقسام الفلسطيني، وعقد لقاءات تشاورية داخل فلسطين وخارجها لمواجهة الانقسام، وكذا طرح مبادرات عدة بهدف تفعيل دور المجتمع المدني الفلسطيني لإنهاء الشرخ الفلسطيني المدمر وبناء وحدة وطنية.
قبل أيام أصدر المركز واحدة من أهم الوثائق التي اشتغل عليها خلال السنتين الماضيتين بعنوان «وثيقة الوحدة الوطنية: مسودة مقترحة»، تمثل خلاصة نقاشات وحوارات أدارها المركز بين نخب فلسطينية وسياسية داخل فلسطين وخارجها. تستحق الوثيقة وقفة ونقاش مُستفيض، خاصة وأنها تتناول مسألة الانقسام الفلسطيني من موضع مستقل لم يخضع لواقع الاستقطاب السياسي- الجغرافي الحاد الذي يحشر الوضع الفلسطيني بين حماس في قطاع غزة وفتح في الضفة الغربية. ما تأمله وتستهدفه الوثيقة، وهو ما يأمله أي فلسطيني أو عربي أو مناصر للقضية الفلسطينية، أي انطلاق حراك حقيقي ومُعمق في أوساط التجمعات الفلسطينية بشأن الوصول إلى صيغة فعالة من الوحدة الوطنية توفر للفلسطينيين منصة نضال صلبة تتوحد عليها بوصلتهم الوطنية وأهدافهم وطموحاتهم المشروعة في تقرير المصير.
في تحليل جذور الانقسام، تعود بنا الوثيقة إلى الاستراتيجيات الإسرائيلية التي هدفت على الدوام إلى تقطيع روابط التواصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، وتبلورت على أكمل وجه من خلال الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب عام 2005 من القطاع وذلك، وبحسب الوثيقة، وفق استراتيجية «خطوة واحدة في قطاع غزة، من أجل عشر خطوات في الضفة الغربية»، وهو فعلاً ما حدث. فغزة وقطاعها لم تحتل عملياً وتاريخياً موقعاً رئيساً في المشروع الصهيوني التوراتي كما احتلت الضفة الغربية (التي تتطلع إليها مشروعات الضم الاستيطاني والتوسعي باعتبارها يهودا والسامرة، الجزء العضوي من إسرائيل الكبرى)، وإعادة التموضع العسكري حولها كان يخدم أهدافاً عليا. لم تهتم إسرائيل لأفق سيطرة حماس على قطاع غزة إثر انسحابها منه، بل ربما سرَّها ذلك، لأنه يخدم استراتيجية الفصل والتقطيع. إضافة إلى هذه السياسة الإسرائيلية، وتبعاً للوثيقة، عمل الاستقطاب الحاد بين «فتح» و «حماس» وتبلور قوتين شرعيتين انتخابياً، على تسوية الأرض للانقسام، خاصة وأن كلاً من القوتين فرض سيطرته على جزء من الجغرافيا الفلسطينية. وعمق التباعد والتهيئة للانقسام، اختلاف الرؤى السياسية بشكل كبير ساهم في تغذية الانقسام التدريجي وتركيب أيديولوجيات أو «مشروعات سياسية» فوق الاستقطاب الحزبي والجغرافي. بعد حدوث الانقسام لم تشتغل تلك العناصر على تعميقه و «المحافظة» عليه وحسب، بل أضيف إليها عناصر خارجية أخرى تمثلت في الأدوار التي لعبتها إسرائيل والولايات المتحدة في الإقصاء والمحافظة على الوضع القائم، وكذلك الدور الذي لعبته الاستقطابات العربية والإقليمية حيث وجد الطرفان الفلسطينيان نفسيهما في معسكرين إقليميين متناقضين.
بعد تحليل جذور الانقسام والبيئة التي حافظت عليه، تطرح الوثيقة مبادئ ومنطلقات عامة للتوجه نحو وحدة وطنية مبنية على أسس مشتركة بين الأطراف المختلفة. وتحدد الوثيقة أربعة منطلقات لتحقيق ذلك، «اولها التوافق على البرنامج السياسي واستراتيجية التحرر الوطني، وثانيها الاتفاق على عقد اجتماعي (ميثاق وطني) على أساس إجراء مصالحة تاريخية بين التيارات الفلسطينية المختلفة، الوطنية والقومية والإسلامية، وثالثها إنهاء الانقسام في سياق إعادة بناء الحركة الوطنية والتمثيل وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، بحيث تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، ورابعها إعادة النظر في شكل السلطة ودورها ووظائفها».
الرؤية التي تقدمها الوثيقة وتدعو إلى إثارة نقاش وحوارات حولها تتمثل في طرح «الرزمة الشاملة» والتي تعني التوافق على كل المكونات السياسية والبرامجية والمدنية، سواء خلال النضال ضد الاحتلال أو عند وفي بناء السلطة والدولة، وبشكل يصوغ التسيس الفلسطيني على قاعدة تكاملية وتعددية وانفتاحية. تطرح «الرزمة الشاملة» مقاربتها للمكونات الأساسية ضمن خارطة طريق تمر بمرحلة انتقالية «تفرضها تعقيدات الواقع الناجم عن الانقسام وتركز على معالجة مختلف الملفات بالتوافق الوطني، استناداً إلى مبدأ التوازي وضمن عملية تدريجية وتراكمية في تنفيذ الملفات». يتم ذلك وفق الوثيقة من خلال إطلاق حوار وطني شامل وعرض ومستمر له سقف زمني قصير. ويقود هذا الحوار الوطني «الإطار القيادي الموقت»، وهو الإطار الذي من المفترض وجوده بناءً على جولات الحوار والاتفاقات «التصالحية» السابقة بين فتح وحماس وبقية الفصائل الفلسطينية، واستهدف توسيع دائرة القيادة الفلسطينية وإضافة القوى غير المنضوية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، وأبرزها حركتا حماس والجهاد الإسلامي.
«الرزمة الشاملة»، بحسب الوثيقة، تفتح الملفات الكبرى والأساسية لقضية فلسطين والنضال من أجل الحقوق المشروعة للفلسطينيين، ولا تنحصر في محاولة الوصول إلى «مصالحة» بين فتح وحماس. ولهذا، فإنها تطرح النقاش في العناوين الأساسية والمؤسسة للنضال الفلسطيني، وتبدأ بعنوان «المشروع الوطني»، الذي ترى ضرورة إعادة تعريفه بشكل يعيد الاعتبار لوحدة القضية والشعب والأرض، وبهدف استعادة مكانة قضية فسطين «بصفتها قضية حقوق وتحرر وطني وديموقراطي، وليست مجرد إقامة أو بناء دولة على جزء من فلسطين، وكذلك إعادة تعريف العلاقة مع إسرائيل من حيث كونها علاقة صراع مع عدو وليس شريك سلام». وتحت هذا العنوان، تحاول الوثيقة إيجاد «خيار ثالث» يتوسط (ويجمع) خياري «الحل التاريخي» القائم على التحرير الكامل والتمسك بالرواية الفلسطينية التامة، و «الخيار الواقعي» القائم على فكرة بناء دولة فلسطينية على أي جزء من فلسطين.
وإذا كان عنوان «المشروع الوطني» وبنوده تحاول نظم الرؤية العامة للنضال الفلسطيني، فإن عنوان «العقد الاجتماعي (الميثاق)»، وهو العنوان الثاني ضمن الرزمة الشاملة يستهدف صوغ علاقة الفلسطينيين في ما بينهم، بحيث تقوم على عقد اجتماعي جديد أساسه إنجاز مصالحة تاريخية بين كل التيارات الفلسطينية، وتأسيس شراكة توافقية وديموقراطية تتوافق مع خصوصية التجربة الفلسطينية.
ثم تطرح «الرزمة الشاملة» مكونها الثالث، وهو «إعادة بناء التمثيل ومؤسسات المنظمة والمجلس الوطني»، وهذا يتوجه مباشرة إلى صلب الخلاف الفلسطيني الداخلي، ويهدف ليس فقط إلى إعادة تشكيل المؤسسات القيادية، بل والأهم منه بناء آليات التمثيل، سواء ما اعتمد منها على الانتخاب مباشرة إن سمح الظرف المعين، أو التعيين بالتوافق. لكن المهم في الحالتين وكما تأمل الوثيقة، هو أن تضم هذه المؤسسات والبنى المُعاد تشكيلها «مختلف ألوان الطيف السياسي، بصورة تجعلها قادرة على أن تكون قولاً وفعلاً الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني»، أي أن تتحقق شمولية التمثيل الوطني من جهة وديموقراطيته من جهة أخرى. المكون التالي لـ «الرزمة الشاملة» هو البرنامج السياسي، وترى الوثيقة إمكاناً حقيقياً لتوافق فلسطيني على مثل هذا البرنامج في ضوء التقارب التدريجي بين البرامج المختلفة خلال العقدين الماضيين. وترى ضرورة أن يتمحور هذا البرنامج حول فكرة تقرير المصير التي تشمل جميع الفلسطينيين في فلسطين (الضفة الغربية، وقطاع غزة، والداخل) وخارجها.
ثم تفرد الوثيقة بنداً خاصة حول السلطة الفلسطينية وترى ضرورة إعادة تعريف شكل السلطة ووظيفتها، وإخضاعها في نهاية المطاف لمنظمة التحرير، التي يجب أن تكون هي عنوان القيادة الفلسطينية وحيث يتشكل القرار والبرنامج السياسي، فالسلطة هي مجرد إدارة لاحتياجات الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بينما المنظمة هي قائدة نضالهم نحو حق تقرير المصير والاستقلال وبناء الدولة. تلقي وثيقة «الوحدة الوطنية» حجراً طال انتظاره في بركة ركود التسيس الفلسطيني الذي دخل مرحلة تكلس أفقدته بريقه، ونشرت الإحباط عند الفلسطينيين ومناصريهم، وآن الأوان كي يخرج الجميع من تلك المرحلة والشروع في ورشة حوار وطني شامل وحقيقي.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة