هؤلاء جميعا يلعبون الدور الأكبر فى الفساد المقنن والمنظم، الذى عصف بمعظم الناس لدرجة تدفع البعض للقول إن معظم المجتمع صار فاسدا
فى هذا المكان كتبت أكثر من مرة خلال الأسبوعين الماضيين عن اعتداء بعض أمناء الشرطة على أطباء مستشفى المطرية التعليمى، وانتقدت بوضوح تصرف وزارة الداخلية وجهات أخرى فى عدم معاقبة المعتدين فورا والحفاظ على كرامة الأطباء.
كتبت وكتب غيرى مرارا وتكرارا عن الكوارث التى يتسبب فيها بعض أمناء الشرطة الذين يشبهون الصول أو الأمين حاتم الشخصية الشهيرة فى فيلم يوسف شاهين وخالد يوسف «هى فوضى». معظمنا يكتب عن عناوين شديدة العمومية وأحيانا السطحية من دون التعمق أو التبحر فى تفاصيل ما يحدث فى جهاز الشرطة.
فى الأيام الأخيرة ناقشنى بعض المطلعين من رجال الشرطة، وقالوا لى إن هناك ما يشبه العلاقة الجديدة بين ضباط وأمناء وجنود وأفراد الشرطة بعد ٢٥ يناير ٢٠١١. قواعد هذه العلاقة هى التى تفسر لنا العديد من الظواهر هذه الأيام.
قبل ٢٥ يناير كانت هناك صيغة غير مكتوبة: الأمناء ينوبون عن الضباط فى تنفيذ كل ما يريدون، خصوصا فى «الأعمال القذرة»، مقابل أن يترك الضباط الأمناء يفعلون ما يشاءون بالمواطنين.
بعد الثورة تغيرت أشياء كثيرة ومنها هذه الصيغة، بعد أن تلقت الشرطة الضربة الأكبر منذ عشرات السنين، ومن بين ما تغير أيضا أن المواطنين رفضوا ان يستمر «استكرادهم»، كما أن الأمناء شكلوا العديد من الائتلافات التى حاولت الحصول على مزايا كثيرة لهم من أول المرتبات إلى طبيعة علاقتهم بالضباط ومرورا بطريقة محاكمتهم وتسريع ترقياتهم، ورأينا نماذج من تمردهم قبل ستة أشهر خصوصا فى الزقازيق.
قبل الثورة كان الأمناء يحصلون على رواتب قليلة جدا، لكن بعضهم فى المقابل كانوا يعوضها بـ«الفردة والبلطجة والإتاوات»، وبعد الثورة توقفت هذه الظاهرة إلى حد كبير. صحيح أن رواتبهم زادت بصورة كبيرة لكن معظمهم تعود على «الدخل الإضافى غير الشرعى».
هذا التغير أدى إلى أن كثيرا من الأمناء فقدوا الولاء للمهنة والعمل وصاروا سلبيين، وقد يرى بعضهم الخطأ ولا يصلحه، أو يعرف أن اللص فلان سرق السيارة أو الطفل من أجل فدية، ولا يتحرك. وهذا ما قد يفسر لنا التراجع فى الأمن الجنائى باعتبار أن الأمناء هم قلب هذا الأمن. بعض الأمناء صار يتهرب من عمله ليعمل على سيارة أجرة، أو أى مهنة أخرى بعد نهاية دوامه، وبعضهم صار يمارس البلطجة، وبعضهم يعمل «من غير نفس»، والبعض الآخر شريف ومحترم ويؤدى عمله على أكمل وجه.
كثير من الضباط لم يعد قادرا على السيطرة على وشكم الأمناء، الذين صاروا قوة، وقد يتكتلون ضد هذا الضابط أو ذاك، بل من دون رضائهم لا يتمكن الضابط من إنجاز عمله، وجاء وقت كان زعماء ائتلاف أمناء الشرطة أكثر أهمية وتأثيرا من العديد من الضباط لدى الوزارة!!.
أفراد الشرطة أيضا قوة جبارة، وبعضهم صار صاحب ملايين إذا كان من اصحاب الوظائف المرتبطة بمصالح الناس، مثل التراخيص والمرور والغرامات وتنفيذ الأحكام، وكلما كان الموظف عديم الذمة، زادت ثروته، وإذا تم نقله إلى إدارة «غلبانة» قد يكتئب ويموت.
هؤلاء جميعا يلعبون الدور الأكبر فى الفساد المقنن والمنظم، الذى عصف بمعظم الناس لدرجة تدفع البعض للقول إن معظم المجتمع صار فاسدا بصورة أو بأخرى أو لديه القابلية للفساد.
ظنى الشخصى ــ وأرجو أن أكون مخطئا ــ أن الممارسات الكارثية لأمناء وأفراد وبعض ضباط الشرطة لن تتغير أو تتوقف بقرار من وزير الداخلية أو رئيس الحكومة أو حتى رئيس الجمهورية.
الحل أن يتم تغيير المناخ الذى يفرز هذه الممارسات ويكرر ظاهرة حاتم كل يوم. أمين الشرطة الذى وضع حذاءه فوق رأس طبيب المطرية هو الابن الشرعى لحاتم. المطلوب أن تبدأ الشرطة فى مناقشة جذور المشكلة وليس فروعها، وأن تقوم العلاقات داخلها على صحيح القانون، وليس الصيغ والعلاقات العرفية والفوقية والخطرة، والتى قد تهدد بنسف هذا المرفق الحيوى من داخله، وليس من خارجه، كما يتصور الكثيرون.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة