أسوأ خيار ممكن يعترض مصر الآن أن تتلكأ بين الأطلال بلا قطيعة مع الأساطير التى أفضت إلى إطاحته عن الحكم فى (١١) فبراير (٢٠١١).
بعدما هوى نظام «حسنى مبارك» بقيت أطلاله تسد أى طريق للمستقبل وأشباحه تطارد كل حاضر.
أسوأ خيار ممكن يعترض مصر الآن أن تتلكأ بين الأطلال بلا قطيعة مع الأساطير التى أفضت إلى إطاحته عن الحكم فى (١١) فبراير (٢٠١١).
الأساطير القديمة لا تصلح لتأسيس أى بناء جديد للدولة.
أول الأساطير أن «قوة الأمن» وحدها تضمن استقرار النظام وأن فيها الكفاية لمنع أى خطر على وجوده دون حاجة إلى أية ركائز أخرى تثبته.
لمدة خمس سنوات قضاها نائبا للرئيس فى ظل «أنور السادات» تولى «مبارك» الملف الأمنى، وهو رجل أمن يفهم فيه ويبالغ فى اعتباراته على حساب أى شىء آخر.
بالنسبة لـ«مبارك» فالأمن أولويته الأولى والثانية والعاشرة وبعد ذلك يمكن أن ينظر فى أية جوانب أخرى.
المبالغة فى النزعة الأمنية تعود أساسا إلى قلة خبرته السياسية، فلم يسبق له طوال خدمته العسكرية الطويلة أن اهتم بالسياسة أو الشأن العام على ما يؤكد كل الذين رافقوه فى تلك الأيام البعيدة.
رغم محاولات مستشاره السياسى الدكتور «أسامة الباز» إكسابه ثقافة سياسية إلا أنه بطبيعته كان ينفر من أى تأسيس أو تنظير لأى موقف وتصرف.
كما تعود المبالغة فى النزعة الأمنية إلى الظروف والملابسات التى صاحبت صعوده الرئاسى فى أجواء عنف يدوى وإرهاب يطل على المشهد عند اغتيال «السادات».
بعد محاولة اغتياله فى «أديس أبابا» مال إلى تركيز إضافى على الأمن غير أن نقطة التحول الجوهرية رافقت الانتخابات الرئاسية فى عام (٢٠٠٥).
أدار الانتخابات نجله الأصغر والمشهد أوحى أننا أمام بروفة مبكرة لـ«توريث الحكم».
فى اجتماع احتفالى بحى مصر الجديدة تصدرته قيادات «لجنة السياسات» سأل اللواء «حبيب العادلى» واحدا من المجموعة القريبة من نجل الرئيس: «ماذا تخططون؟».
لم يكن فى حاجة إلى إجابة فقد حزم أمره على أن يكون «وزير داخلية التوريث».
وكان ذلك إقحاما للأمن فى ملف ملغم يستقطب مشاعر عامة مضادة فى الشارع وداخل مؤسسات القوة الأخرى.
هكذا توسع الدور الأمنى خارج طبيعة مهامه وتدخل على نحو غير مسبوق فى الحياة العامة من البحث العلمى إلى اختراق الأحزاب إلى الاقتصاد ومشروعاته.
بمعنى آخر تأسست دولة بوليسية وتعمقت فجوات بين الأمن ومجتمعه وكانت النتائج قاسية فى تجربة «يناير».
لا الأمن حافظ على دوره ولا على بنيته ولا كان بوسعه حماية نظام تقوضت شرعيته تماما.
وثانى الأساطير أن الاستغناء عن السياسة بمعناها المؤسسى الحديث يخفض من الصداع العام فى بنية النظام ويوفر قدرا أكبر من الاستقرار.
لم يكن «الحزب الوطنى» حزبا حقيقيا بقدر ما كان تجمعا لأصحاب المصالح يلتصق بالسلطة، أى سلطة.
هو مزيج من بيروقراطية الدولة ونفوذ الأمن.
فى لحظة الثورة بدا الانكشاف كاملا للبنية السياسية المصطنعة للنظام.
الانهيار كان كاملا مع أول تجمع كبير فى ميدان «التحرير».
دفع النظام ثمنا مستحقا لاختراق الأحزاب السياسية من داخلها، وتفجيرها فى بعض الحالات، ومنعها من ممارسة أى دور يتجاوز مقراتها.
فى الإضعاف المنهجى للحياة الحزبية نيل مباشر من سلامة النظام السياسى، أى نظام سياسى.
بقدر ما تكون تلك الحياة صحية وقابلة لاكتساب الثقة العامة فإن قواعد النظم تتأسس على أرض صلبة.
وثالث الأساطير أن ارتفاع معدلات النمو يغنى عن التنمية الحقيقية.
بالإرقام تجاوزت نسبة النمو حاجز الـ(٧٪)، وهى نسبة لا مثيل لها فى التاريخ المصرى المعاصر، غير أنها لم تمنع الانفجار الاجتماعى الكبير الذى أطاح النظام كله.
فقد ذهبت عوائد النمو إلى طبقة رأسمالية متوحشة توغلت فى الفساد وجنت أموالها من زواج السلطة بالثروة.
فى الغنى الفاحش بغير إنتاج حقيقى والفقر المدقع بغير أمل بالحياة تعمقت التناقضات إلى حدود استدعت قلقا داخل قطاع الأعمال الخاص نفسه.
أخطر ما يحدث الآن بقاء نفس الخيارات الاقتصادية دون مراجعة جدية تضمن للاستثمارات تدفقها وفق قواعدالشفافية وتوفر فى الوقت نفسه مقتضيات العدل الاجتماعى.
ورابع الأساطير أن توريث السلطة ممكن بتجاوز «المؤسسة العسكرية».
فى بلد مثل مصر تأسست قاعدة دولته الحديثة عام (١٨٠٥) على بناء جيش حديث قوى اعتمدت قوته الضاربة على أولاد الفلاحين لأول مرة منذ قرون طويلة فإنه يصعب تجاوز الجيش إلا أن يكون ذلك وهما من الأوهام.
عندما اغتيل «السادات» سأل رئيس الوزراء الدكتور «فؤاد محيى الدين» المشير «عبدالحليم أبو غزالة»: «ما العمل؟.. لا يوجد غيرك أنت أو النائب».. أجابه: «طبعا الأخ مبارك».
وفق هذا التفويض أصدر رئيس الجمهورية المؤقت «صوفى أبو طالب» قرارا بإعادة تعيين «مبارك» نائبا وقائما بدور القائد الأعلى للقوات المسلحة.
نقل كامل للسلطة قبل إجراء أى استفتاء.
بحكم خبرته المباشرة لم يكن الرئيس الأسبق «مبارك» يجهل حقائق القوة غير أنه لم يكن حازما فى وقف مشروع التوريث.
المثير أن بعض الأطراف المحيطة بنجله استبدت بها حالة استخفاف غير مبررة بتلك الحقائق.
بعد ثورة «يناير» لم تكن هناك مشكلة فى إسناد الرئاسة إلى شخصية مدنية منتخبة غير أن تحرش الجماعة بالجيش وسعيها إلى تغيير طبيعة الدولة أفسد التجربة كلها.
فى اللحظة التى استهترت بها بعض أطراف «لجنة السياسات» بحقائق القوة دفعت الثمن فادحا فى «يناير» على ذات القدر الذى دفعته الجماعة فى «يونيو».
وخامس الأساطير التعويل شبه المطلق على الولايات المتحدة فى ضمان استقرار النظام وتوريث النظام الجمهورى من الأب إلى الابن.
تأسست تلك الأسطورة بعد حرب أكتوبر مباشرة، وأفضت نتائجها إلى إهدار بطولة السلاح وعزلة مصر عن قضايا عالمها العربى والتنكر لأفريقيا والعالم الثالث.
رغم النتائج الكارثية ظل الاعتقاد طوال الوقت جازما بأن المستقبل المصرى يصنع فى البيت الأبيض حتى أن الدكتور «مصطفى الفقى» سكرتير رئيس الجمهورية السابق للمعلومات قال ذات مرة «إن الرئيس القادم سوف يكون اختيارا أمريكيا بموافقة إسرائيلية».
فى اليوم التالى كتب الأستاذ «محمد حسنين هيكل» تعليقا مقتضبا ومدويا عنوانه: «شهد شاهد من أهلها».
لم يطل الوقت حتى تبددت أسطورة التعويل على الإدارة الأمريكية فى ضمان مستقبل النظام وبدت وهما من الأوهام فى الأيام الأولى لـ«يناير».
سقوط الأساطير يستدعى تأسيس رؤى جديدة لبلد فى عصر مختلف، يتعلم من دروس الماضى بلا تشف ويتطلع إلى المستقبل بثقة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة