"هيكل".. عميد الصحفيين وخزينة أسرار السُلطة
عن 93 عاما، توفي صباح الأربعاء الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل.. وهو من الشخصيات التي أتيح لها أن تعاصر معظم الأحداث الساخنة في بلادها.
عن 93 عاما، توفي صباح الأربعاء الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل.. وهيكل من الشخصيات القليلة، التي أتيح لها أن تعاصر معظم الأحداث الساخنة والحاسمة في تاريخ بلادها، وفي فترة من الفترات تشارك أيضا في صنع القرار، سياسيا وإعلاميا ودبلوماسيا وثقافيا، تصدر هيكل المشهد في كل هذه الدوائر وكان أحد اللاعبين الفاعلين في ساحتها، صديقا شخصيا لكبار زعماء العالم وقادته ورؤسائه، وشيج الصلة بكتاب العالم ومثقفيه، مطلعا على دقائق وتفاصيل صنع القرار، في الداخل والخارج، راصدا ومحللا ومتابعا وقارئا.
وجوه هيكل كثيرة ومتعددة بل ومربكة لمن أراد أن يتقصاها أو يحاول جاهدا استقصاءها، ولا مفر من الانتقاء وتركيز زاوية النظر على جانب محدد، بل ربما جزء محدود من هذا الجانب، إذا أراد دارس أو باحث أو مهتم أن يبرز أو يحلل أو يكشف جانبا من المنجز "الهيكلي".
كذلك فإن أعماله، ومشواره ترهق من يحاول حصرها وتصنيفها، ومقالاته المتناثرة تجهد من حاول جمعها وقراءتها، مادة غنية الصحافة والإعلام، السياسة والتاريخ، الثقافة وعلوم الاجتماع والتطور البشري، تحليل الخطاب وعلم الأسلوب والبلاغة المعاصرة، سوسيولوجيا الأدب والثقافة، .. إلخ
لقد قام هيكل، بحسب كثير من الباحثين، بدور جذري في تشكيل توجهات السياسة المصرية وأيديولوجيتها في خمسينيات وستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، حيث قام من ناحية بكتابة معظم خطب عبد الناصر طوال فترة توليه الحكم، ومعظم خطب السادات في الفترة من 1970 حتى 1974.
كما يُنسب إليه كتابة بعض أهم الوثائق التي حملت توقيع عبد الناصر، وساهمت بشكل محوري في تأسيس ما بات يُعرف بـ"الأيديولوجيا الناصرية"؛ إضافة إلى ذلك كان هيكل من خلال رئاسته لتحرير جريدة الأهرام، أكثر الجرائد العربية مبيعًا في تلك الفترة، يسهم في توجيه الرأي العام المصري والعربي على نحو ربما لم يتسنَّ لصحفي عربي آخر في العصر الحديث.
وبالمثل كان لمقاله الأسبوعي في جريدة الأهرام، الذي حمل عنوان (بصراحة)، تأثير في صياغة وعي الجماهير وسياسات الحكم لم يتسن لأي مقال أسبوعي آخر، إضافة إلى ذلك فإن هيكل لم يكن مجرد "كاتِب خُطب"، بل كان شريكًا أساسيًا في الحكم.
أعمال محمد حسنين هيكل التي تربو على الخمسين كتابا تمثل مكتبة سياسية وتاريخية شاملة تؤرخ لمصر والعالم العربي طيلة ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، لعل أشهرها رباعيته «ملفات السويس»، «الانفجار 67»، و«أكتوبر 73 السلاح والسياسة». وثلاثيته عن المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل «الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية»، «عواصف الحرب وعواصف السلام»، «سلام الأوهام أوسلو - ما قبلها وما بعدها».
في عام 1923 وفي حي الحسين الشعبي، ولد محمد حسنين هيكل لأب من جذور صعيدية، وتحديدا مركز ديروط محافظة أسيوط كان يعمل تاجرا للحبوب وكان يرغب في أن يكون الابن طبيبا لكن الأقدار اختارت له طريقا آخر وهو الصحافة، ونظرا لظروفه المادية الصعبة التحق هيكل بمدرسة التجارة المتوسطة، وتخرج فيها، لكن طموحه لم يكن يرضى بذلك. تجاوز هيكل ظروفه وقرر الاشتغال بالصحافة، فدرسها بالجامعة الأمريكية، وكانت تلك نقطة البداية في مشواره الصحفي.
خلال تلك الفترة تعرف على سكوت واطسون الصحافي المعروف بـ"الإيجيبشان جازيت" وهي صحيفة مصرية باللغة الإنجليزية، ونجح واطسون في إلحاق هيكل بالجريدة في 8 فبراير 1942، كصحفي تحت التمرين بقسم المحليات، وكانت مهمته العمل في قسم الحوادث.
بعدها سيذهب هيكل لتغطية وقائع الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية، بالعلمين، يسافر بعدها إلى مالطا ثم إلى باريس التي التقى فيها بالسيدة فاطمة اليوسف صاحبة مجلة روز اليوسف والتي قررت أن تنقل الصحفي الشاب إلى مجلتها، ليصبح هيكل في عام 1944 صحفيا في مجلة روز اليوسف وهناك تعرف على محمد التابعي، لينتقل معه إلى صفحات آخر ساعة.
وتحت إدارة التوأم مصطفى وعلي أمين قدم هيكل تقارير مصورة عن "خط الصعيد" في 13 أغسطس 1947 ما جعله حديث مصر كلها، ولم ينته عام 1947 حتى اخترق هيكل وباء الكوليرا ليكتب تحقيقا عن قرية "القرين" التي لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها، وحاز لذلك جائزة فاروق، أرفع الجوائز الصحفية بمصر في ذلك الوقت.
بعدها أصبح هيكل رئيسا لمجلس إدارة الأهرام ووزيرا في عصر عبد الناصر، ثم الكاتب الأول في عهد السادات، إلى أن اختلفا وانتهى الأمر بأن يقبض عليه ويسجن في أحداث سبتمبر 1981، وبعد اغتيال السادات يخرج هيكل ويتفرغ للكتابة والتحليل السياسي، وظل طوال هذه الفترة التي تمتد لما يقرب من خمسة وثلاثين عاما المرجع الذي يهب إليه كل المتخصصين في السياسة والشأن العربي.
طوال حياته كان مثيرا للجدل والمعارك، وكان شأنه شأن كل الشخصيات الاستثنائية، محط إعجاب الكثيرين، وكذلك محط رفض وازدراء آخرين، لكن في النهاية يبقى هيكل واحدا من الشخصيات العربية المؤثرة في مجريات وأحداث القرن العشرين.
aXA6IDE4LjE5MC4xNTMuNzcg جزيرة ام اند امز