الشعوب تخبئ مفاتيح وجودها في قلوب لغتها الأم
يخاف الإنسان على لغته من الاندثار كما الأم على وليدها الجديد، لأنها باتت من أقوى الأسلحة في مواجهة التبعثر والاحتواء، بمعناه السلبي.
كما هو شعار "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يشعر بها إلا المرضى"، هكذا يبدو حال اللغة لدى مَن يفتقد التكلم بها أو عندما يكون ممنوعاً من نطقها في مناطق وجوده.
اللغة قد تحارب الشعوب من أجلها حتى تبقى لغة معترفا بها، وفي ذلك تدور معارك لنيل الحقوق الثقافية للقوميات التي كادت تختفي من على سطح الكرة الأرضية، لولا تمسكها وتشبثها بلغتها الأم.
واللغة الأم تختلف التفسيرات والتعريفات بشأنها؛ بعض التعريفات تعتبرها أول لغة ينطقها الإنسان، وأخرى أول لغة يتعلمها، وغيرها تعرّفها على أنها اللغة التي يفكر بها ويحلم بها أو قد تكون الكتابة بها.
يخاف الإنسان على لغته من الاندثار كما الأم على وليدها الجديد، لأنها باتت من أقوى الأسلحة في مواجهة التبعثر والاحتواء، بمعناه السلبي.
في آلية الحلول للمشكلات
الحديث عن اللغة العربية يأخذ ناطقها ومتحدثها والملم بها إلى آفاق بعيدة من النشوة والرحابة، فأصحاب اللغة الأصلية، كما هو معروف يتحدرون من شبه الجزيرة العربية، وكونها لغة القرآن الكريم فهي حظيت باحترام وتقدير كبيرين لدى كافة المسلمين من جهة، ومحبي تعلمها من جهة أخرى.
هذا الأمر دعا المنظمات العالمية، ومنها اليونسكو، لإطلاق يوم عالمي لجميع الشعوب اسمه "اليوم العالمي للغة"، والمصادف للواحد والعشرين من شباط / فبراير كل عام، حيث الفضاء مفتوح لدى الجميع للتعبير بلغته وإثبات وجوده وسط مخاوف من أن تبتلع العولمة ما تبقى من تراث وثقافة الشعوب الخائفة من إثبات نفسها في زحمة اللغات.
والآن الإجابة الأهم عن سؤال: كيف نحافظ على لغتنا وسط العولمة؟ تحتاج إلى الكثير من التمعّن إذاً، في واقع تسيّدت فيه اللغة الإنكليزية وفرضت نفسها كونها لغة العلم والحضارة والمعارف.
في العالم العربي، نادراً ما تكون هناك فعاليات أو مهرجانات ثقافية تركز على اللغة العربية وتدافع عنها بل أو تعتبرها عنوانها الأبرز، ربما نشاهد المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل وبعض فنون الأدب، لكن اللغة لوحدها تبقى مظلومة لدى العرب أنفسهم، مع تسلل ظواهر غريبة.
في وسائل النقل والأماكن العامة تجد الكثيرين يتحدثون العربية، مع إدخال الكلمات الإنكليزية، وهذه باتت ظاهرة مستفحلة لدى الشركات، كون أغلبية طاقمها يكون أجنبياً، من غير العرب، لكن كيف يمكن تفسير لغة العربي الذي يُدخل كلمات فرنسية أو إنكليزية إلى العربية؟
كما تزخر اللافتات الإعلانية باللغة الإنكليزية، وحتى لو كُتبت بالعربية، فإنها تكون ركيكة، ويمكن البحث في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكبر لتتبع ما يمكن اعتباره بالفضيحة أو الجريمة بحق اللغة العربية، بحسب المتعصبين للغة من المدققين والنحويين والأدباء.
هذه الفجوة تتبعها فجوة أخرى في التعليم في المناهج الدراسية، التي لا تقل فظاعة في ارتكابها الكثير من الأخطاء الإملائية والنحوية، لكن القصة أكبر من هذا، هي قضية وجود وإثبات وهوية.
في حين تتهدد اللغة العربية باللهجة العامية أيضاً، التي تكثر في العالم العربي، في الوقت الذي ينادي فيه لغويون بتجديد اللغة بما يتناسب مع الواقع والعصر، إلا أن هناك مّن يقف بالمرصاد بذريعة أنها من اللغات المقدسة كما القرآن الكريم.
وتقف في وجه اللغة كثرة المرادفات لنفس الكلمة، على الرغم من أنها تُعتبر من الإيجابيات لو أُحسن استخدامها في الكلام والكتابة.
هذه الإشكاليات وسواها لا يمكن إيجازها، إلا أن بعض الدول تساهم في الحفاظ على مكانة اللغة، كجزء من التراث والثقافة والوجود والهوية، ما يستوجب طرح استراتيجيات على مستوى المدارس والمجتمع كحلقة أكبر.
لذا، يمكن النظر إلى ما سبق باعتبارها عوائق تستوجب حلولاً يمكن استخلاصها من المشاكل نفسها.
ولعل محرك البحث العالمي أدرك أهمية اللغات للشعوب، فأدرج قبل أيام ثلاث عشرة لغة جديدة في قائمة لغاته، وهذا التحديث مستمر لديه، علماً أن هناك آلاف اللغات في العالم يتحدث بها نسبة قليلة من السكان.
تجارب رائدة في الحفاظ على اللغة العربية
بغض النظر عن الشعارات في كيفية الحفاظ على اللغة العربية، تحاول دولة الإمارات العربية المتحدة مراراً ابتكار وسائل تشجع على التحدث باللغة العربية وجعلها في مصاف اللغات الكبرى في العالم، وهناك العديد من الإجراءات العملية في ذلك.
وترى الإمارات أنه "في إطار ترسيخ هويتها والحفاظ على موروث وثقافة الدولة ـ بقيادة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة ــ أطلق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، في 16 سبتمبر 2015 (تحدي القراءة العربي)".
ويهدف التحدي إلى تشجيع القراءة بشكل مستدام ومنتظم عبر نظام متكامل من المتابعة للطلاب طيلة العام الأكاديمي، ولاسيما بعد أن أشارت دراسات إلى نسبة كبيرة من الخلل في معدلات القراءة في العالم العربي.
وفي الإمارات تقرر أن يكون العام 2016 هو عام القراءة، وتعميم هذه التجربة على جميع إمارات الدولة والأكاديميات وغيرها من المؤسسات التعليمية والاجتماعية، وها نحن نشهد كل يوم مباردة أو مبادرات عدة تحول هذا التحدي إلى واقع.
وعليه، يبقى الاهتمام باللغة العربية والحفاظ عليها ضرورية، كمّن يحافظ على حياته في هذه القرية العالمية الصغيرة، حسب تعبير عالم الاتصال مارشال ماكلوهان، وإلا فالمخاطر المحدقة باللغة ستمتد إلى مفاصل الحياة الأخرى، كالمجتمع والاقتصاد والثقافة والتراث، وربما السياسة أيضاً.