مخطئ من يظن أن المواقف القوية التي تتخذها دول الخليج العربية في الفترة الأخيرة هي ارتجال فرضته الساعة، أو انقطاع مفارق لسياساتها
مخطئ من يظن أن المواقف القوية التي تتخذها دول الخليج العربية في الفترة الأخيرة هي ارتجال فرضته الساعة، أو أنها انقطاع مفارق لسياساتها السابقة ومختلف عنها، فقد كان اللجوء إلى الديبلوماسية في العقود الماضية حاضراً حين يكون مفيداً، لكن اللجوء إلى القوة كان حاضراً أيضاً إذا لم يكن هناك مفر منه. حين جد الجد عام 1990، مع غزو صدام حسين للكويت كانت دول الخليج هي رأس الحربة في تحريرها سياسياً وعسكرياً، من دون إنكار لأهمية المساهمة العسكرية الأميركية. والقدرة على عقد التحالفات العسكرية مع دول كبيرة في هذه الحال هي محض نجاح عسكري، يعود إلى تطبيق المفهوم الشامل للقوة، وتوظيف كل إمكانات الدولة وطاقاتها في كسب الصراع، فالدول تخوض الحروب لتنتصر، وكل ما يحقق هذا الهدف يدخل في باب الواجب السياسي والعسكري. لم تتردد دول الخليج آنذاك في اتخاذ قرار الحرب التي لم يكن هناك من سبيل سواها إلى استعادة الحق، وإصلاح الخلل الناجم عن الأطماع الإقليمية والمقامرة السياسية وتوهم القوة الذي قاد النظام العراقي وقتها إلى حتفه، وقاد العراق للأسف إلى طريق حافل بالألم والمعاناة. ولمن لا يدرك، فإن تراث الحرب ليس جديداً على دول الخليج العربية، فأبناؤها هم أحفاد مقاتلون كانوا قادرين على التنزه بسفنهم الحربية على الشاطئ الآخر من الخليج، وإقامة ممالك مزدهرة سياسياً وتجارياً تناطح إمبراطوريات مزهوة بقوتها ومشبعة بإحساس الاستعلاء والتفوق.
وفي هذا السياق يمكن أن نفهم مناورات «رعد الشمال» التي ستحتضنها أراضي حفر الباطن في المملكة العربية السعودية. فنحن أمام رسالة مفادها أن القوة العسكرية تبدو الخيار الأنسب والأقرب إلى الاستخدام في الوقت الحالي، وإن لم يكن المرغوب، وأن دول مجلس التعاون تمتلك أعلى درجات الجاهزية والكفاءة لمواجهة التهديدات، ودحر من تسول له نفسه أن يعبث بالأمن والاستقرار في المنطقة. كنّا إذاً، في دول الخليج، قادرين في كل وقت على ضمان أمننا الوطني على مستوى كل دولة وعلى مستوى التعاون الخليجي كلاً. وأثبتت دولنا منعتها وصلابتها أمام العواصف التي لم تهدأ يوماً، وذلك باتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، ونفاذ البصيرة لدى قادة المنطقة وحكامها، واستعدادهم لمواجهة التغيرات بوعي وقراءة متبصرة للمستقبل، وهو ما اقتضى في اللحظة الحالية استخدام القوة العسكرية بصورة جديدة، كأداة من أدوات السياسة، استجابة لتحديات البيئة الإقليمية المضطربة.
حققت دول الخليج طفرات تنموية دفعت بكثير منها إلى صدارة دول العالم في مؤشرات تتعلق بالصحة والتعليم والتكنولوجيا والتطور الاجتماعي والاستقرار السياسي والأداء الاقتصادي المميز، لكنها لم تغفل يوماً أهمية امتلاك القوة الرادعة التي تحمي منجزاتها ومكتسباتها، وتوازى المساران وتكاملا لتدعم القوة السياسية والاقتصادية بناء الجيوش المتطورة، وتزيد القوة العسكرية المتنامية من القدرة على صياغة المعدلات السياسية والاقتصادية في المنطقة والعالم، وصناعة البيئة الملائمة لتعميق الإنجاز التنموي والدفاع عن مكتسباته. وفي اللحظة المناسبة، حين اختلفت أولويات الحلفاء الدوليين وأجنداتهم، كان البديل الخليجي جاهزاً، سواء على مستوى العمل السياسي الفاعل والمتطور، أم على مستوى القوة العسكرية التي تعطي العمل السياسي أساساً متيناً، وتمنح الأهداف الخليجية الكبيرة صدقية وواقعية. واستند ذلك كله إلى توافق وانسجام على مستوى القيادة وعلى مستوى الشعوب في دول مجلس التعاون على ضرورة التحرك الجماعي لصيانة المصالح الخليجية، ومنع أي قوى متربصة من قرص إرادتها والعبث بمعادلات الأمن والاستقرار والتوازن الذي يجب الحفاظ عليه.
قوة الخليج السياسية والعسكرية كانت جاهزة لملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن تغير أولويات الولايات المتحدة الأميركية وتبدل رؤيتها للمنطقة. ولا شك في أن دول مجلس التعاون حرصت دائماً على علاقاتها بالقوة العظمى المهيمنة في ظل إدراكها لمقتضيات النظام الدولي وحرصها على تحقيق مصالح شعوبها، لكنها كانت تعرف أيضاً أن هذه العلاقات مع القطب العالمي الأوحد قابلة للتبدل والتحول، من ثم استعدت لها على النحو الملائم.
القوة العسكرية واحدة من أهم الأدوات في الوقت الحالي، إذ يمكن أن ترسم الخرائط من جديد ويعاد ترتيب المنطقة على وقع الحروب والصراعات التي تتدخل فيها أطراف إقليمية ودولية تحاول ضبط نتائجها على النحو الذي تريد. وتتزايد المؤشرات على أن دولاً مثل إيران وتركيا تعمل على إعادة هندسة المنطقة على النحو الذي يلبي مصالحها، مستخدمة قوتها العسكرية صراحة أو عبر وكلاء يقاتلون بضراوة، وتراود الدولتين أطماع الإمبراطوريات الغاربة وأحلامها التوسعية. مثّلت «عاصفة الحزم» رسالة واضحة للحلفاء والأعداء معاً، مفادها أن دول الخليج العربية قادرة على العمل وحدها عسكرياً، وكانت لطمة للقوى الإقليمية التي تخترق الدول والمجتمعات العربية الهشة من خلال صنع الفوضى وإذكائها عبر وكلائها المحليين. كان فحوى الرسالة للقوة العظمى وللقوى الدولية الكبرى أيضاً، أننا في الخليج العربي قادرون على ضمان أمننا بأنفسنا، وتحقيق أهدافنا بكل الوسائل المتاحة. وتعززت هذه الرسائل بالأداء العسكري المقتدر، وبالانتصارات المتوالية التي حققتها قوات التحالف العربي في بلد يمتلك سمعة عريقة في استنزاف القوى التي تتدخل فيه عسكرياً، وعلى رغم حقول الألغام المتمثلة في تعقيدات جغرافية واجتماعية ومذهبية وقبلية وسياسية واقتصادية وتاريخية يمكنها أن تتفجر في أي لحظة. تعززت هذه الرسالة أيضاً بالقدرة على خوض حرب طويلة، في ظل تأييد ودعم كبيرين من الرأي العام الخليجي، ساعدت في امتصاص الصدمات وتحمل الخسائر التي راهن الخصوم على أنها يمكن أن تحدث تأثيراً سلبياً، أو التراجعات التكتيكية التي كانت تمهد دائماً لمزيد من التقدم العسكري. كان من اللافت للنظر ذلك التناغم بين أداء القوات الجوية والبرية والبحرية ومنظومات المعلومات والاستخبارات الدقيقة، والقدرة الفائقة على استخدام أحدث الأسلحة والتقنيات، على رغم أن دولاً عدة تشارك في العمليات العسكرية. وأصبح واضحاً أن لدى القوات المسلحة السعودية والإماراتية، وهما القلب الصلب للتحالف العربي، الكثير من الدروس التي يمكن أن تقدمها للفكر العسكري. ويساند ذلك كله أداء سياسي رفيع، حاصر الحوثيين وحلفاءهم في الداخل ومحركيهم في الخارج سياسياً وأخلاقياً وقانونياً، وحشد المجتمع الدولي ضد عدوانهم على الشرعية وسعيهم إلى ابتلاع اليمن والهيمنة عليه. في هذا الإطار تأتي مناورات «رعد الشمال»، بحجمها غير المسبوق، ومشاركة 350 ألف جندي من 20 دولة، و20 ألف عربة مدرعة ودبابة قتال، ونحو 2500 طائرة حربية و500 مروحية، ومئات السفن الحربية، لترسل رسالة أخرى قوية بأن القوات المسلحة الخليجية لديها الكثير مما تقوله، وأنها على أهبة الاستعداد لخوض مزيد من الحروب إذا فرض عليها ذلك، حماية لمنطقة الخليج وشعوبها ودعماً للدول والشعوب العربية كلاً، ومنعاً للمتربصين من المساس بالأمن الخليجي والعربي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة