من تجليات تراجع السياسة فى مصر لعدة عقود غياب “الكادر السياسي” الذى يمكن أن يتصرف فى حدود صلاحياته بطريقة رشيدة
من تجليات تراجع السياسة فى مصر لعدة عقود غياب “الكادر السياسي” الذى يمكن أن يتصرف فى حدود صلاحياته بطريقة رشيدة ويقيس ردود أفعال الرأى العام إزاء القضايا التى تطفو على السطح فجأة، نتيجة حادث طارئ ينتج عنه أزمة على مستوى المجتمع أو فى العلاقة بين الحكومة وفئات بعينها، دون أن يورط السلطة فى مواقفه المترددة أو تصريحاتها البعيدة عن الحصافة السياسية. الأمثلة كثيرة فى عدم إتقان دور “السياسى الحصيف” وبفعل تراكم تاريخى أصبح المنصب الوزارى يقترن عند عامة الناس بعقلية “موظف الحكومة” الذى لا يجتهد خارج الصندوق ولا يريد أن يضع نفسه فى اختبار، حتى لو كان عابراً، بأن يصنع موقفاً ويتحمل نتائجه بحكم موقعه. حوادث كثيرة فى الفترة الأخيرة تقول إن مصر تحتاج إلى “الكادر السياسي” أكثر من أى وقت مضى ولم يعد المسئول على طريقة “سكن..تسلم” يمنح الشعب طمأنينة، فهو مسئول يفتقر للخيال ويفتقد الحس السياسى ويفاقم من الأزمات سواء بسكوته أو عندما يفتح فمه متحدثاً فى قضية عامة.
فى بعض الأحيان، يقارن المتابعون للشأن العام بين “كوادر” مارست السياسة وتقلدت مناصب لسنوات فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك وبين الكوادر الموجودة فى مواقع المسئولية اليوم، ويرون أن القدامى كانوا أكثر دراية وحنكة، وهو قول لا يستند إلى حجج سليمة، لأن الكوادر نفسها التى يتحدثون عنها هى التى أفسدت وأصابت الناس باليأس من التغيير ووضعت البلاد على حافة الخطر قبل أن يخرج الشعب ضدها. فضعف أداء مسئولين اليوم لا يعنى أن من سبقوهم هم الأفضل ولكنه يعنى أن الحياة السياسية لم تنتج بعد “الكوادر” المناسبة لمرحلة التحول، وأن السلطة تحتاج إلى إعمال قواعد جديدة فى إسناد المناصب السياسية إلى شخصيات بعينها، فهى التى تدفع الثمن عن كل كلمة أو أى تصرف يثير دهشة أو غضب الرأى العام.
يخطيء من يتصور أن الاستعانة بمسئولين “حذرين” لا يثيرون قلقا ولا يتصرفون منفردين هو الأصوب، فهى سياسات عفا عليها الزمن ولم تعد ملائمة لطبيعة التحولات الجارية. الرأى العام يضيق بالمسئول المتخبط أو الهاوى فى موقعه أكثر من ذى قبل بحكم طبيعة العصر وتعاظم الضغوط فى وقت يكون المواطن أراءه عبر شبكة معقدة من التفاعلات الحديثة نسبياً ومنها مواقع التواصل الاجتماعي. الموظف فى جهاز الدولة لا يعيبه أن ينفذ الأوامر أو ما تطالبه به الإدارة العليا، لكن المسئول السياسى يرتكب خطيئة عندما لا يحسب حسابا لقراراته أو كلماته وهو ما نعانى منه اليوم على مستويات عدة. كما أن المسئولين الذين يرتكنون على مستشاريهم الإعلاميين وبعضهم يمعن فى الاعتماد على تلك “البدعة” يعتقدون أنهم يحصنون أنفسهم ومواقعهم ضد النقد، فيما تقول التجارب الأخيرة أن تلك سياسة عمرها قصير وتضع المسئول الكبير فى موقع المساءلة وربما المحاكمة من الرأى العام عندما يكتشف خديعة الأرقام أو التصريحات وأغلبها مفرط فى التفاؤل، ولا يعير المخاوف أو الانتقادات اهتماماً.
مشروع “كوادر السياسة” هو مشروع مرتبط بنضج الحياة السياسية ووجود تنافس على الدفع بشخصيات قادرة تحمل رؤى وبصيرة إلى المناصب الوزارية وقيادة المؤسسات المؤثرة فى صناعة القرار السياسى ودون أن تعد الأحزاب والمجتمع المدنى كوادرها إعداداً لائقا دون النظر لتولى المناصب فى القريب العاجل، سنظل ندور فى دائرة من الإخفاق مرات كثيرة والنجاح فى مرات قليلة على حساب الصالح العام. عملية اعداد الكوادر السياسية المؤهلة عملية طويلة وليست بالهينة وتحتاج إلى مثابرة واصرار من الأحزاب والمجتمع المدنى وحالة من الاستقرار ووضوح الهدف فى تلك المؤسسات حتى تٌخرج قيادات يمكنها أن تفرض نفسها على صانع القرار، وتقدم للبلاد ما تحتاجه وهو “الكادر السياسي” الواعى والخبير بطبيعة تعقيدات الوضع الراهن. مدرسة “التكنوقراط” قدمت لمصر الكثير من الكوادر الجيدة والنزيهة إلا أن الزمن يتغير والحسابات تتعقد، وهناك حاجة ملحة إلى تغيير الاتجاه والاستثمار فى القيادات الوسيطة والعليا فى الدولة بشكل أكثر تنظيماً وانفتاحا على الأجيال الجديدة التى تملك أفكاراً تناسب عصرهم وتعكس إلماما أكبر بعالمهم وما يجرى فيه من تطورات متسارعة. فقبل الحديث عن مشروع بناء دولة حديثة علينا “تجهيز البشر” أولاً حتى لا نهدر الجهد والعرق فيما لا طائل منه ونظل فى دوائر مفرغة ونسأل أنفسنا فى كل مرة: ماذا جري؟!!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة