لدى الأفراد كما لدى نظم الحكم مسلمات يقبلون بها دون إعمال تفكير وتصبح الأساس، تقوم عليها تصرفات الأفراد وسياسات الحكومات
لدى الأفراد كما لدى نظم الحكم مسلمات يقبلون بها دون إعمال تفكير وتصبح هى الأساس الذى تقوم عليها تصرفات الأفراد وسياسات الحكومات. ومهما تغيرت الأحوال، فهذه القناعات لا تتغير بسهولة. بعض المصريين يعتقد أن أفضل سبيل لبلوغ أمانيه هو من خلال الواسطة أو الفهلوة، ولذلك فعندما يحتاج إلى قضاء حاجة له، فإنه يبحث عن شخص ذى نفوذ أو يتحايل لاكتشاف سبل تؤدى به إلى ما يريد وباستبعاد الطريق المستقيم، وطبعا هناك من يعتقد أن سبيل النجاح فى الحياة هو من خلال العمل والاجتهاد، ولذلك فعندما يتطلع إلى غاية ما، فإنه يبحث عن الطريق المشروع لبلوغ هذه الغاية مهما عانى من متاعب. وبالنسبة للحكومات، تسلم الحكومات الغربية بأفضلية المشروع الخاص فى أداء الخدمات، ومن ثم فالتدخل الحكومى فى شئون الاقتصاد هو لمساعدة المشروعات الخاصة أو لإقالتها من عثرتها، كما تؤمن بأن أفضل النظم السياسية هو النظام الديمقراطى الذى يقوم على الانتخابات الحرة والمفتوحة للجميع، ولذلك فهى عموما تشجع الحكومات المنتخبة، ولا تحبذ تغيير الحكومات بقوة السلاح.
لدينا فى مصر عدد من هذه المسلمات تكمن وراء عمل حكوماتنا منذ عهد الرئيس السادات، وهى لا تتغير مهما تغيرت ظروف مصر وظروف العالم، وإذا كانت مسلمات الحكومات الغربية هى مسلمات مقبولة من جانب مجتمعاتها، وهى مفتوحة للنقاش والتشكيك فيها، ويمكن أن تتغير مع تجربة هذه المجتمعات وما يموج فيها من تيارات فكرية وما يحتدم من حوار خلاق بين هذه التيارات، فالأمر مختلف عندنا فى مصر. هذه المسلمات لدى أهل الحكم هى أمور مسكوت عنها، وقد ينفونها فى النقاش العام، ولكن تواتر السياسات على نحو ثابت يكشف عن رسوخ هذه القناعات لديهم. وسيذكر هذا المقال عددا من هذه المسلمات على أمل أن تكون موضوعا للحوار العام والذى يكسب النظام السياسى شرعية إذا كان هناك قبول واسع لها، أو ربما يدعوه للعدول عنها إذا لم يكن هناك ما يسندها لا من تأمل الواقع ولا من رضاء المواطنين.
***
فى مجال الاقتصاد هناك ثلاث مسلمات رئيسية تسترشد بها حكومات مصر منذ دعا الرئيس السادات إلى اتباع سياسة الانفتاح الاقتصادى، أولها أن القطاع العام هو عبء على الحكومة والشعب، والأفضل هو التخلص منه فى أقرب وقت، والعقبة الوحيدة فى نظر الحكومة هى تلك العقليات المتحجرة التى مازالت أسيرة لأفكار ستينيات القرن الماضى، والتى تواصل خداع المواطنين الذين يستسلمون للشعارات التى يرفعها أصحاب هذه العقليات، ولولا ذلك لكانت مصر قد عرفت الرخاء الذى يسود الدول الرأسمالية المتقدمة. ومع القبول بهذه القناعة فإن برامج خصخصة القطاع العام مستمرة، قد توقفها هذه الحكومات تحت الاحتجاجات الشعبية فترة، ولكنها ما تلبث أن تعود لها بعد أن تهدأ هذه الاحتجاجات. وثانى هذه المسلمات أن نجاح التنمية الاقتصادية فى مصر رهن باجتذاب الاستثمارات الأجنبية، ولذلك لا تلقى الحكومة بالا لآراء المستثمرين المصريين، ولا لشكاواهم من سياسات حكومية تعرقل عملهم، فمن وجهة نظر الحكومة لا فائدة ترجى من ورائهم، فلن ينقذ مصر سوى تدفق رءوس الأموال الأجنبية بمعدلات ضخمة. وثالث هذه المسلمات أن المواطنين المصريين لا يهمهم سوى رغيف العيش، أما المطالبة بحكم القانون واحترام الحقوق المدنية والسياسية فهى أمور لا ينشغل بها سوى أعداد محدودة من النخبة الليبرالية، أو هى مقولات يوظفها الإخوان المسلمون لأغراضهم الخاصة البعيدة كل البعد عن جوهر ما يتشدقون به.
أما فى عالم السياسة فهناك أربع مسلمات رئيسية، وهى أن ذاكرة الشعب المصرى قصيرة للغاية، والأحزاب السياسية مضيعة للوقت، والديمقراطية لا تصلح فى الوقت الحاضر لمصر، والعسكريون هم دائما أفضل من المدنيين.
تطفو على السطح قضايا تثير أسئلة ينشغل بها الرأى العام، ثم تتوارى دون أن يكون لها جواب. اعترف الرئيس بأن هناك مظلومين وراء غياهب السجون، وتوقع كثيرون أن يعقب ذلك إفراج عن بعض هؤلاء المسجونين، ولكن ذلك لم يحدث على الرغم من مرور شهور عليه، ولم يعد أحد يتحدث عن ذلك. وهاجت الصحف وماجت احتجاجا على تصريح رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات عن تكلفة الفساد فى مصر، وخرجت لجنة عينها الرئيس بالقول بأن رئيس الجهاز كان مخطئا، ثم خفت الحديث عن التقريرين وكأن أمر الفساد لا يعنى المواطنين فى مصر، هم الذين أهدرت مواردهم التى حصلت عليها الحكومة بضرائبها نتيجة لهذا الفساد، وتوقف الهجوم على رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، وبذل رئيس مجلس النواب قصارى جهده ليؤجل مناقشة التقريرين فى المجلس مدعوما بنواب يؤيدون الحكومة على طول الخط، ولا تفسير لذلك سوى تعويل الحكومة على أنه بمضى الوقت سينسى المصريون هذا الموضوع، أو ينشغلون عنه بموضوع آخر، إلى حين.
***
وثانى هذه المسلمات فى المجال السياسى هو أن الأحزاب السياسية فى مصر غير مفيدة، ومناقشاتها مضيعة للوقت، وهى لا تهتم بمشاكل المواطنين، ولذلك سعى من وضعوا قانون الانتخابات إلى تهميشها إلى أقصى حد بعدم الأخذ بنظام التمثيل النسبى الذى يجعل عضوية المجلس النيابى انعكاسا لمدى التأييد الذى حصلت عليه الأحزاب السياسية بين المواطنين، ورفضت اللجنة التى وضعت هذا القانون الأخذ بمقترحات الأحزاب لتعديله، وبعد أن ثبت أن غلبة المستقلين فى مجلس النواب أصبحت مشكلة لدى الحكومة التى لا تعرف مقدما إذا كانت مقترحاتها ستلقى التأييد فى المجلس لعدم وجود حزب تستند إليه ولهشاشة عضوية الائتلاف الذى يدعى تأييدها على طول الخط، لم يلتفت أحد إلى أن استمرار تهميش الأحزاب هو خطر على الاستقرار السياسى، وأنه كان من الأجدى اتخاذ خطوات لتقويتها بدلا من تكرار معزوفة ضعف الأحزاب وأنه لا أمل يرجى من ورائها.
وثالث هذه المسلمات هو أن الديمقراطية لا تصلح لمصر فى الوقت الحاضر، وأن الأمر سيقتضى ما لا يقل عن خمس وعشرين عاما حتى تستعد مصر للديمقراطية، ولذلك فليس هناك ما يدعو للمطالبة بها فى الوقت الحاضر، ولا بد من الانتظار حتى يتلقى المصريون تعليما أفضل، ويرتفع مستوى معيشتهم، عندئذ يمكن الانتقال إلى الديمقراطية. ولذلك تتعدد انتهاكات حقوق الحياة والحرية من جانب السلطات الحكومية وفقا لتقارير كل منظمات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية والدولية، بل وفقا لما يرد فى الصحف المصرية دون اعتذار أو تفسير من جانب هذه السلطات.
ورابع هذه المسلمات أن العسكريين هم دائما أفضل من المدنيين ليس فقط فى شئون الدفاع أو فيما يخص الأمن الوطنى، ولكن فى كل المجالات، من الحكم المحلى إلى إدارة شركات النفط وإلى الإشراف على الجامعات، ومن الانخراط فى النشاط الاقتصادى إلى النهوض بهضبة الأهرام. فهم تعلموا فى القوات المسلحة قيم الانضباط والنظام، والتى يفتقدها المدنيون. ولذلك نشهد توسعا فى الدور الذى تقوم به القوات المسلحة أو ما يقوم به عسكريون حاليون أو سابقون فى مجالات بعيدة كل البعد عن وظائفهم الأصلية.
***
طبعا أمور الاقتصاد والسياسة أكثر تعقيدا من هذه المسلمات المسرفة فى التبسيط. فى مجتمعات أخرى تتسم بالديمقراطية لا تبقى مثل هذه المسلمات أمورا مسكوتا عنها، هى تخضع للنقاش العام وتتغير مع تجربة الحياة. أما فى مصر فلا أحد يصرح بها ولا أحد يناقشها، ولذلك تستمر أساسا للسياسات العامة. النقاش العام لهذه المسلمات سوف يوضح حدودها، ومن ثم تستند السياسات العامة إلى أسس أكثر واقعية، فالقطاع العام يمكن أن يؤدى دوره بكفاءة إذا ما رفعت عنه القيود، ولم يثبت أن القطاع الخاص أكثر كفاءة منه فى جميع المجالات، وتجربة بريطانيا فى تخصيص خدمات السكك الحديدية شاهد على ذلك، والنجاح فى اجتذاب رءوس الأموال الأجنبية رهن بحسن معاملة المستثمر المحلى، والمواطنون المصريون حريصون على كرامتهم مثلما يحرصون على لقمة العيش، وهو ما أثبتته أخيرا احتجاجات الأطباء وسكان الدرب الأحمر، وفى مجال السياسة استمرار غياب الشفافية تحت دعوى قصر ذاكرة المصريين له عواقبه الوخيمة على شرعية نظام يتعمد تجاهل حقهم فى المعرفة، والحكومة هى التى تدفع الآن ثمن تهميش الأحزاب، فلا تجد سندا مؤكدا لسياساتها فى مجلس النواب، وهو ما كان يمكن أن تتفاداه لو كانت جهود اللجنة التى أعدت قانون الانتخابات التشريعية سعت بدلا من ذلك إلى تدعيم دور الأحزاب فى الحياة السياسية، وأخيرا فالعسكريون، خارج نطاق القوات المسلحة، يمكن أن ينجحوا ويمكن أن يفشلوا، مثلهم فى ذلك مثل المدنيين.
لماذا لا تصبح هذه المسلمات موضوعا للنقاش العام حتى تتبين الحكومة والرأى العام حدود مصداقيتها، ومن ثم تصوغ الحكومة سياساتها على أسس أكثر استنارة؟
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة