ويشير إلى ضرورة تمسك كل من الجانب العربى والجانب الصيني«باستكشاف الطرق التنموية بإرادتهما المستقلة. فلا يوجد دواء يعالج كل الأدواء
«فلتقف الكتل والجماهير على قدميها ولتستيقظ لتقود الكفاح»؛
من العبارات التى لصقت فى ذاكرتى بعد أن قرأت كتاب الكاتب الكبير الراحل محمد عودة «الصين الشعبية»(الطبعة الأولى لدار النديم، نهاية الخمسينيات)، منتصف السبعينيات. انها العبارةالتى وردت على لسان أحد قادة الصين الكبار «صن يات صن»(1866 ـ1949)، فلقد كانت أشبه بشارة الانطلاق لمعركة ممتدة وطويلة وشاقة عرفت كثير من الإخفاقات. كما كانت تعني، أيضا، أنه لا خلاص للشعب الصينى من محنته إلا بالانتظام معا للتحرر من واقعهم الأليم. هذا الواقع الأليم الذى شرحه بدقة، محمد عودة، وشرح كيف ثار عليه الصينيون فى مسيرة عظمى امتدت لسنوات وانتهت بالثورة الصينية فى 1949 على يد ماو تسى تونج الزعيم الصينى التاريخي. وهى الثورة التى لحقت بها ثورة يوليو المصرية بعد ثلاثة أعوام.
فلقد كانت الصين مستعمرة، وكان شعبها فقيرا وجائعا بفعل الطبقة الإقطاعية المدعومة من الاستعمار. والأخطر الإدمان الجماعى «للأفيون». بالإضافة إلى الأساطير والخرافات التى تحكم بوضع أقدام الفتيات فى قوالب حديدية حتى تبقى صغيرة، ومن ثم جميلة، ويعجل ذلك من زواجها. وأذكر هنا كيف شدد والدى الطبيب ـ على أثناء قراءتى لكتاب محمد عودة، بضرورة قراءة رواية «الأرض الطيبة» لبيرل بيك(1892 ـ 1973)، الأديبة الأمريكية، والتى حازت على نوبل عنها فى 1938. لأنها تنقل صورة مؤلمة، ولكنها أمينة عن مدى بؤس الصين. ونقتطف من بيرل بيك هذه السطور المعبرة التى تقول:»وذات ليلة عاد وانج لانج متأخرا، فوجد وعاء يغلى على النار منذ فترة وبه قطعة لحم، كانت تلك أول مرة يأكلون فيها لحما، منذ فترة، فأندهش وانج لانج وقال لزوجته لابد أنك قد تسولت من الأجانب اليوم، فلم ترد، ولكن طفله الصغير صاح فى فخر: أنا اخذت اللحم أنه لي، أخذته عندما نظر الجزار إلى الجهة الأخرى»...
وقد كانت سيرة صن يات صن، ذاته، وملايين غيره من أبناء الصين، خير مثال لمجتمع بائس. يتملك اليأس مكوناته. إلا أن صن يات صن ابن الفلاح المعدم ، والمجتمع الإقطاعى المتخلف تملكته رغبة شديدة بضرورة أن يحدث تغيير فى المجتمع...وكان هذا فى عام 1892، عندما بدأ يبث خطاب التغيير فى كل مكان. ولم يكن أشدالمتفائلين ـ آنذاك ـ يتصور أن الثورة ستقوم فى 1949. وأن الصين ستدرك ما أدركته فى الألفية الثالثة. أن تكون القوة الاقتصادية الثانية فى العالم. أو تكون التنين الكبير الذى يتحرك بخفة فى كل أرجاء المعمورة...
كل الأفكار السابقة تداعت إلي، وانا اقرأ نص المقال الذى كتبه الرئيس الصينى شى جين بينج، قبل زيارته إلى مصر فى يناير الماضي. وهو المقال الذى نشرته الأهرام فى ملحق خاص بالزيارة عنوانه:«مصر والصين 60 عاما من التضامن» (19 يناير 2016). ففى هذا المقال الذى لفت نظرى إليه ـ الصديق الكبير المهندس الاستشارى والمناضل اليسارى المخضرم ـ منير عياد، عبارات تستحق الكثير من التأمل. عبارات تعكس رؤية استراتيجية لعقل يعرف بدقة الأهمية الاستراتيجية للمكان القادم إليه، وتاريخه، وما الذى يريده بدقة من مصر والمنطقة، وما هى طبيعة التعاون الممكن والمطلوب،...،إلخ.
من هذه العبارات نقتطف ما يلي: «مصر هبة النيل». «تشربت معنى هذا القول قبل 16 عاما، لما قمت بزيارة مصر للمرة الأولى، واطلعت بعينى على كيفية تعامل الشعب المصرى القديم مع طغيان النهر، وتحويل اندفاعه الدورى إلى الاكتساب الاساسى فى الرزق، وكان ذلك قد علمنى أن النيل أبو الحضارة المصرية، وأثار منى كل الاعجاب بحكمة الشعب المصري، والثناء على قوته. ومنذ ذلك الوقت، يبقى النيل النابض المتدفق محفورا فى ذهني»...ويضيف الرئيس الصينى الآتي:«أما التبادل بين الشعبين الصديقين الصينى والمصري، فجذوره عميقة تليق بوضع البلدين كصاحبى الحضارة والتاريخ، فقد بادرت الصين، عندما كانت فى عهدها الملكى هان قبل 2000 عام ونيف، يبعث رسلها إلى الاسكندرية، وكان طريق الحرير رابطة مهمة تربط أحد الجانبين بالآخر». ثم يستعرض الرئيس الصينى فى مقاله تاريخ العلاقات المصرية الصينية على مدى 60 عاما أى منذ ناصر وتشواينلاى وحركة عدم الانحياز، إلى أن يتحدث عن العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وفى هذا المقام، يشير إلى ضرورة تمسك كل من الجانب العربى والجانب الصيني«باستكشاف الطرق التنموية بإرادتهما المستقلة. فلا يوجد دواء يعالج كل الأدواء. ولا يوجد نمط تنموى يناسب جميع الدول». وانطلاقا مما سبق،عرض استعداد الصين «لدعم مصر وسائر الدول العربية فى السير على الطرق التنموية التى تتناسب مع ظروفها الوطنية والمشاركة فى تقاسم تجارب التنموية ومواجهة تحديات العصر»...
فى هذا الإطار، شرح الرئيس الصينى مبادرته التى أطلق عليها: «مبادرة الحزام والطريق»...والتى أظنها تلخص الخبرة التنموية للتجربة الصينية والتى أوصلتها لتكون: «التنين» العابر للقارات؛ وفق استراتيجيات تعاونية واعية...فما هى هذه المبادرة أو بالأحرى ما طبيعة هذه التجربة التنموية...ونتابع...
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة