لا يستطيع أحدنا تفسير ما الذى يحدث عندما يتحول شخص ما من النقيض إلى النقيض. ربما يستطيع علماء النفس والمتخصصون أن يفسروا
لا يستطيع أحدنا تفسير ما الذى يحدث عندما يتحول شخص ما من النقيض إلى النقيض. ربما يستطيع علماء النفس والمتخصصون أن يفسروا هذه الكراهية الشديدة التى تصل حد الحقد ضد ما كانوا، حتى إنهم ينسون ربما بعض الذكريات واللحظات الإنسانية التى كانت يوما تجمعهم بأشخاص وضعوهم اليوم فى خانة الأعداء وهم كانوا أكثر الأصدقاء قربا بل ربما رفاق درب.
أن يتحول المرء من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، مرورا بدرجات من الارتباط برأس المال الحديث، فهذا أمر خاص وقد يكون عاديا فى تاريخ الشعوب والأفراد وقد يقول البعض إنه ربما علامة من علامات النضج أن يكتشف الإنسان فى لحظة ما أنه لا ينتمى إلى ذاك الفكر الذى التصق به أيام الصبى. كثيرون كانوا يرددون أن الماركسية واليسارية هى للشباب فقط أما فى مراحل ما يسمى بـ «النضج» فإنها تفشل فى إقناع أى شخص بالانتماء لها. وفى هذا كثير من قلة الدراية أو المعرفة أو المتابعة لأن العديد من الماركسيين واليساريين الآن هم من فئة الشيوخ فى هذا الوطن الممتد الذى أصبح من الصعب أن نطلق عليه عربى، حتى لو كان فى ذلك صفة للتعريف وليست صفة لإنكار الأعراق الأخرى، الا وأن نتهم بالانحياز وعدم الاعتراف بالأقليات العرقية التى فى كثير من الأحيان هى أصلا ليست أقلية.
***
نتذكر ذلك الحقد لدى بعض من كانوا من القوميين ثم اليساريين الذين انضموا فى مرحلة ما للحزب الشيوعى هنا أو حزب العمل الشيوعى أو أى من الأسماء الأخرى للتيارات الماركسية، نتذكرهم عند وفاة هيكل حيث تحولوا جميعا إلى وصلة من الانتقاد الذى يصل إلى درجة التجريح واللطم وربما أكثر دون مراعاة أن الرجل قد رحل ولم يعد قادرا حتى لممارسة أبسط حقوقه وهى الرد على بعض التأويلات أو الاتهامات. قد يختلف كثيرون مع هيكل وقد يتحدث آخرون عن دوره فى مرحلة عبدالناصر وما بعد، إلا أن لا أحد يستطيع أن ينكر، خاصة من وقف عن قرب عند تجربة الأهرام كصحيفة رائدة فى مصر، لا يستطيع المرء ألا يعجب بتلك المرحلة الرائدة وكيفية قيامه بالعديد من التطورات على الصحافة والإعلام العربى.
المثير حقا أن نفس هؤلاء المنسلخين عن ماضيهم يقومون بشكل مستمر فى ترديد عبارات حول تقبل الرأى الآخر وحقوق الآخرين وكثير من الكتابات عن حقوق الإنسان التى أصبحت مادة دسمة للكثيرين سواء آمنوا بها أم لا!!! فيما لا يستطيعون أن يمارسوا ما ينادون به فيما يتعلق بحق الآخرين فى الاختلاف عنهم فى الرأى والعمل وحق الآخرين فى أن يكونوا قادرين للرد على الانتقادات التى توجه لهم، والأهم كرامة الميت وحقه فى أن يسدل تحت التراب فى سلام وألا تلاحقه شياطين الماضى وشيطنات المختلفين والمثقفين واليساريين السابقين واليمينيين الجدد!!!
***
يبدو أنهم كما غيروا مواقفهم وعملوا على محو الماضى والتنصل منه، قاموا أيضا بالتجرد من كل ما كانوا حتى الجميل منه وهذا ربما ما يحزن فى هذه العلاقات المعقدة عند الكثيرين من اليساريين السابقين العرب. حيث لا مكان إلا للصور القاتمة تتداعى فى ذاكرتهم ولا مساحة لبعض الصحبة التى كانت ولا حتى للذكريات التى امتزجت أحيانا بدماء لرفاق وأخوة ولا ربما، وبما أنهم وكما يقولون استفاقوا من غفوة كانوا فيها وانهم تحولوا إلى الالتحاق بالإنسانية العالمية بعيدا عن الانعزالية للحركات اليسارية والقومية، رغم كل هذه القيم العالية لم يتعلموا منها أن أهمها تقبل الآخر مهما اختلف عنك ومنك واحترم رأيه حتى لو كنت ترى أنه على خطأ شديد، بل وأكثر من ذلك إعطاء الفرصة للموت بسلام فى زمن كثر فيه الخصام واحتدم حتى الاقتتال باسم الدين والطائفة والحرية والعدالة وحقوق الانسان وغيرها.
لا أحد يمنع على أى شخص أن ينسلخ كما يشاء ولكن لنبقى على بعض احترامنا لبعض ماضينا، الذى هو ليس بالكامل خطأ وليس بالكامل صوابا، بل كل الأمور لم تعد تتربع فى المساحات البيضاء أو السوداء لأن الرمادى أصبح هو لون اللحظة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة