تبدَّدَت الفرحة بتبرئة الروائى أحمد ناجى قبل أقل من شهرين، وحلّ محلَها الدهشة والاستنكار والرفض لإدانته أمس الأول فى الاستئناف
تبدَّدَت الفرحة بتبرئة الروائى أحمد ناجى قبل أقل من شهرين، وحلّ محلَها الدهشة والاستنكار والرفض لإدانته أمس الأول فى الاستئناف الذى قضى بحبسه سنتين لنشره فصلاً من روايته «استخدام الحياة» فى جريدة «أخبار الأدب» مع تغريم رئيس تحرير الجريدة 10 آلاف جنيه، وجاءت الإدانة لنشره مواد أدبية تخدش الحياء العام وتنال من قيم المجتمع. وذلك بعد أن استأنفت النيابة حكم البراءة الصادر من محكمة أول درجة.
أما حكم أول درجة الذى أبرأ المتهميْن فإنه لم يأخذ بحجة النيابة بأن الاتهام ثابت عليهما وكافٍ لتقديمهما إلى المحكمة بسبب، حسب قول النيابة، ما قام به الروائى بنشره مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكاً لحرمة الآداب العامة وحُسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجاً على عاطفة الحياء. وأنه أضحى كالذباب لا يرى إلا القاذورات فيُسلِّط عليها الأضواء والكاميرات، حتى عمّت الفوضى وانتشرت النار فى الهشيم. وأن المتهم الثانى قام بنشر فصل من هذه الرواية فى الجريدة التى يرأس تحريرها.
تداولت محكمة أول درجة المذكرات واستمعت إلى شهادة خبراء فى النقد الأدبى وتاريخ الأدب، حيث أدلى بالشهادة الدكتور جابر عصفور والأديبان صنع الله إبراهيم ومحمد سلماوى، ثم أصدرت حكمها التاريخى الذى رفض الوقوف على عبارات بعينها فى الرواية بعد اجتزائها من سياقها، وأقرّ الحكمُ بأن العمل الأدبى كيان واحد إذا اقتُطِع منه جزء انهار ذلك العمل، وأضافت الحيثيات بالنص أنه من المقرر.. أن حرية التعبير وتفاعل الآراء التى تتولد عنها لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التى تتوخى قمعها، بل ليكن للمواطن الحرية فى أن يتنقل بينها يأخذ منها ما يأخذ ويلفظ منها ما يلفظ، دون أن يوضع له إطار أو قالب يحدّ من تكوين أفكاره ومعتقداته. كما أن طرح الأفكار والمعتقدات علانية يجعلها مجالاً للبحث والتقييم من جانب المختصين بل والمجتمع أجمع، فيأخذ منها الصالح ويطرح منها الطالح..ولكن، وبمقتضى حكم الاستئناف واجب النفاذ، فقد تم ترحيل الأديب الروائى إلى قسم الترحيلات بالخليفة حيث يُنقَل إلى السجن لقضاء العقوبة!
الأمر جلل ولا يقبل التسطيح، كما لا يجوز العبث بتخليص حسابات سياسية صغيرة، مثلما ارتفعت بعض الأصوات الزاعقة، التى تدين السيسى دائما، وتحدثت عن مسئوليته فى الحكم بإدانة أحد الأدباء وحبسه، وقالوا إن هذا يؤيد سابق رؤيتهم عن عدائه لحرية الفكر والإبداع..إلخ! رغم أن هؤلاء، بنفس منطقهم المغالط بزعم أن هناك مسئولية لرئيس الجمهورية عن أحكام القضاء، لم يشكروا السيسى على الحكم بالبراءة فى أول درجة! بل إن كثيراً منهم لم يفتح فمه فى حكم البراءة خشية أن يَضعُف هجومُه المستمر على القضاء.
والمؤكد أنهم جاهزون إذا أحسوا بتدخل السيسى فى مسار المحاكمة أن يصدروا البيانات الفورية عن عدوانه الصارخ على استقلال القضاء!!
طريقة تناول هؤلاء للقضية، فضلاً عن أنها تغالط الحقائق والواقع، فهى تُشتت الجهود الرامية إلى الإصلاح الذى لن يكون له معنى إلا عندما يصير أساساً قانونياً جديداً تتجلى له نتائج إيجابية على الأرض.
وأما التناقض بين الحكمين، مرّة بالبراءة ومرّة بالإدانة، فهو ليس فقط بسبب اختلاف القضاة فى تأويل نصوص القانون، ولكن الأهم أنه انعكاس للاضطراب التشريعى الحاصل والذى هو نتيجة أكوام التشريعات المتراكمة عبر سنوات طوال كان فيها السطوة عبر تاريخ ممتد لأعداء الفن والأدب وحريات الفكر والتعبير والبحث العلمى، وكان أنصار حرية الفكر والإبداع ينجحون بعض المرات فى تمرير بعض النصوص التى تحمى المبدعين وإبداعهم، إضافة إلى الاتفاقيات الدولية المُلزِمة الضامنة للحريات العامة والخاصة والتى انضمت إليها مصر وصارت جزءاً أصيلاً فى التشريع المصرى.
وكل هذا يُفسِح مجالاً واسعاً لاختلاف الأحكام الذى نراه، وقبلها فهو يسمح للنيابة والدفاع أن يستند كل منهما إلى مبادئ قانونية مختلفة عن الآخر، وأحياناً متعارضة، ثم يجئ الحكم حسب ما يراه القاضى صحيحاً، وليس له أن يحيد عما يراه صحيحاً من النصوص المتعددة بين يديه.
وأما الخلاص من كل هذه المعاناة فهو يحتاج إلى نضال صعب، شأنه شأن كل ما يرتقى بالمجتمعات وبالمواطنين، ولهذا شروط كثيرة أهمها تحديد الأسباب. وهنا يتجلَّى الدور المحورى للبرلمان الذى لم ينتبه البعض لخطورته وتساهلوا فى أمره فقاطعوا انتخاباته، وطالبوا الجماهير بالمقاطعة.
نقطة البدء الفاعلة التى تحل المشكلة من جذرها، لا بالتعامل قطعة قطعة ومطالبة رئيس الجمهورية بإصدار عفو فى كل حالة على حدة، مع ترك أسّ الداء، وإنما بأن يقوم مجلس النوّاب بغربلة هذه الأكوام من التشريعات، على أن يلتزم فى مهمته بالدستور وبالاتفاقيات الدولية المشار إليها، والأهم أن يضع النواب نصب أعينهم معنى ومضمون الإرادة الشعبية الواضحة التى انتفضت ضد حكم الإخوان المتمسح فى الدين، والتى أسقطت مرشحى التيارات الدينية المتطرفة فلم يفلت لهم إلا عدد هزيل.
هنا ساحة النضال الحقيقى المجدى، بمطالبة الرئيس والحكومة بالتقدم بالتعديلات المطلوبة إلى البرلمان، وبالضغط على النواب لوضع هذه المهام على رأس أعمالهم، وبالعمل، فى أوساط الجماهير، على نشر هذه المفاهيم وعلى ضرورة أن يكون لها الأولوية.
دون الإصلاح التشريعى، ودون التعامل مع حزمة الحريات ككل، ستظل القوانين المقيدة للحريات فاعلة، وسيظل الحبس قائماً فى قضايا النشر، وفى قضايا الفنون، بل وفى قضايا تمسّ التصرفات الشخصية، وسوف يسود المناخ المعادى للحريات المتستر بشعارات حماية مكارم الأخلاق.
وأما ما يُضعِف من موقف المصلحين، فهو فى التغاضى عن ضحايا هذه التشريعات إذا كانوا من الخصوم، بل أحياناً إذا كانوا خارج الخندق. وقد حدث أن أدينت مؤخراً مطربة مغمورة قليلة الحيلة بنفس التهم التى تُوَجَّه ضد الأدباء، وجرى تحويلها إلى السجن مع التشهير بها ووصمها بالتهتك والانحلال والسعى للتحريض على الرذيلة، دون أن يناصرها صوت من أصحاب المبادئ، بل لقد صمتوا وهم يرونها تتعرض على بعض شاشات التليفزيون للتطاول الذى ينتهك القانون ويجافى قواعد الإعلام.
وفى كل الأحوال، ينبغى أن يُسرِع دفاع أحمد ناجى فى الجوانب الإجرائية، بالتصعيد لدرجات أعلى فى التقاضى، والمطالبة بوقف التنفيذ لحين البتّ النهائى فى القضية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة