ودارت الأيام، وسنحت لى بعد ذلك فرصة التعرف على الأستاذ هيكل بشكل مستقل. ولكن على الجانب السياسى لم يكن لى اتصال يذكر به
أظن أن هناك ما يمكن أن أكتبه عن المرحوم الأستاذ / محمد حسنين هيكل فى مجال الصحافة والسياسة والعمل العام، مما لم يتناوله آخرون من أصدقائه وزملائه وتلاميذه الذين أتيحت لهم فرصة العمل معه عن قرب طوال رحلته الممتدة عبر عدة عقود. ومع ذلك فإننى أحب ان أشرك القراء تجربتين لى معه، واحدة شخصية والثانية فى المجال السياسى.
فبرغم متابعتى لكتابات الاستاذ هيكل، شأن أبناء جيلى الذين تعرفوا عليه من خلال كتاب «خريف الغضب»، إلا أن معرفتى الشخصية به كانت عن طريق والدى، الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين. إذ جمعتهما مهنة واحدة، وجريدة الأهرام، وفترة عصيبة من الحياة السياسية، فاختلفا فى العديد من الآراء والمواقف، ولكن ظلت بينهما صداقة ومودة وتقدير، وعلاقة إنسانية وأسرية عميقة.
وفى عام ١٩٩٠ أصيب والدى بنزيف حاد فى المخ، أقعده عن الكتابة والحركة والتواصل مع الناس لست سنوات تالية، حتى وافته المنية فى صيف ١٩٩٦. وطوال هذه السنوات، ظل الأستاذ هيكل وزوجته السيدة/ هدايت، دائمى الزيارة والسؤال عن صحته والاطمئنان إلى أحوال الأسرة حتى بعدما زادت أعراض النزيف، ولم يعد الحديث معه ممكنا، حريصين على صداقة تجاوزت المجال المهنى وصارت تضم كل أفراد الأسرتين. فلما توفى فى اغسطس ١٩٩٦ فى منزله الصيفى بشاطئ أبو تلات على الساحل الشمالى، كان الأستاذ هيكل أول من اتصلت بهم لإبلاغه بالخبر، فكان أول الحاضرين من منزله بشاطئ الرواد. وصباح هذا اليوم، قام الأستاذ هيكل بالاتصال بجريدة الإهرام، لكى تساعدنا فى نقل الجثمان إلى القاهرة، وفى ترتيب مراسم الدفن والجنازة والعزاء، مدركا أنه يجنبنا مشقة وحرج التعامل مع رئاسة المؤسسة غير المكترثة فى هذا الوقت بكتابها السابقين. وبعدها بيومين كان حاضرا فى صف متلقى العزاء، مع عدد محدود من أصدقاء والدى المقربين، الأستاذ/ عبدالمحسن قطان من فلسطين، والدكتور/ كمال الشاعر من الأردن، والسيد/ الأخضر الإبراهيمى من الجزائر. وطوال السنوات التالية ظل الأستاذ هيكل والسيدة قرينته قريبين من الأسرة، معبرين بذلك عن إخلاص ووفاء ومودة لم تعد من سمات عصرنا. فلما تأسست جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين الثقافية بمبادرة من أصدقائه، وعلى رأسهم الأستاذ هيكل، ظل حريصا على حضور كل مناسبات الجمعية واحتفالات تكريم الشباب الفائزين فى مسابقتها السنوية، وكان حضوره كل عام بمكتبة القاهرة الكبرى ذا أثر بالغ على انتشار العلم بالجائزة فى وقت كانت الدولة تحارب فيه النشاط الثقافى، وتتوجس من كل اجتماع ومناسبة ثقافية.
ودارت الأيام، وسنحت لى بعد ذلك فرصة التعرف على الأستاذ هيكل بشكل مستقل. ولكن على الجانب السياسى لم يكن لى اتصال يذكر به إلا فى أعقاب ثورة ٣٠ يونيو، حيث التقيته أثناء تشكيل الحكومة الجديدة، فكان متحمسا لمشاركتى فيها، مدركا للمخاطر والتحديات، ومقدرا للتضحية التى يقبل عليها من يتصدر للعمل العام فى هذه اللحظة العصيبة. وفى نهاية شهر أغسطس ٢٠١٣، عقب قيامى بالإعلان عن «مبادرة حماية المسار الديمقراطى» التى أثارت جدلا واسعا وخلافا بين التيارات السياسية، اتصل بى الأستاذ هيكل فذهبت لزيارته بمكتبه فى الجيزة. وقد وجدته فى هذا اليوم قلقا ومدركا لخطورة اتساع الهوة بين النظام الجديد وبين الشباب الذى ثار فى يناير ويونيو، آملا فى العودة لمسار ديمقراطى سليم. وقد سعى فى حدود علمى للتدخل أكثر من مرة لإقناع الأطراف الحكومية المختلفة بضرورة ضم الصفوف وحماية تحالف ٣٠ يونيو، وتجنب الاندفاع نحو المزيد من تصفية الحسابات وتأجيج الكراهية، ولكن للأسف أن جهوده لم تكلل بالنجاح. فلما استقلت فى يناير ٢٠١٤ بعد الخلاف على قانون التظاهر، اتصل بى الأستاذ هيكل مرة أخرى للاطمئنان أولا، ثم للتعبير عن انزعاجه الشديد، ليس من استقالتى فى حد ذاتها، وإنما من الشعور بأن المسار الذى يسلكه البلد لم يعد يعبر عن الحلم الدى دفع الناس للثورة مرتين. وأظن أنه خلال العامين التاليين بذل كل جهد ممكن لإقناع المسئولين فى الدولة بأهمية الإدارة السياسية للوضع الراهن بدلا من الاعتماد على الحلول الأمنية وحدها، وبضرورة الاستعانة بأهل الخبرة والكفاءة فى إدارة شئون البلد بدلا من الاكتفاء بأهل الثقة وحدهم. وقد تكررت هذه المعانى فى حواراته التلفزيونية مع الأستاذة/ لميس الحديدى دون يأس أو كلل. وأتصور أنه لو أُخذت هذه الآراء والنصائح فى الاعتبار لكان وضعنا اليوم أفضل كثيرا. وفى كل الأحوال فقد كنت أعلم أن متابعته لنشاطى السياسى فى هذه الفترة لم تكن نابعة من شغفه المعروف بالشأن العام فقط، وإنما كانت تعبر أيضا عن ذات الاهتمام بأسرة صديقه القديم، وحرصه على تقديم النصح والمشورة وقت اللزوم.
رحم الله الأستاذ الكبير الذى ترك بصمة لا تنسى فى عالمى الصحافة والسياسة فى مصر والعالم العربى، وخالص العزاء لأسرته وأصدقائه وجمهوره الواسع، ولكل من سوف يفتقدون ليس فقط ظهوره السياسى والاعلامى وإنما أيضا حضوره الشخصى.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة