في ذكرى رحيله الأولى.. سليمان فياض السارد الحكيم
في ذكرى رحيله الأولى صدر كتابان أولهما لناقد بارز عن أشهر أعماله الروائية والثاني كتاب توثيقي يلم شتات المادة النقدية حول إبداعاته
في السادس والعشرين من فبراير الجاري، تحل الذكرى الأولى على رحيل الكاتب والروائي متعدد الوجوه والمواهب سليمان فياض (1929-2015)، واحد من آباء السرد الجديد في ما بعد نجيب محفوظ، وأحد أقطاب جيل الستينيات، وصاحب الصوت الخاص والمتفرد في المشهد الأدبي المعاصر.
ترك فياض العديد من الروائع الروائية والقصصية؛ درته الباقية «أصوات»، و«أيام مجاور»، ومجموعاته اللافتة «القرين» و«بعدنا الطوفان»، فضلا عن كتاباته الفكرية والثقافية: «الوجه الآخر من الخلافة الإسلامية»، و«المثقفون ـ وجوه من الذاكرة».. وغيرها من الأعمال الإبداعية والدراسات التاريخية واللغوية.
وعلى كثرة ما ترك فياض للمكتبة العربية من إرث زاخر وقيم، فإن السمة البارزة في كتاباته غير الأدبية جميعا أنها تجمع بين خطين يبدوان متباعدين في الظاهر مع أنهما من تقاليد الثقافة العربية في مصر الحديثة؛ الخط الأزهري في عنايته باللغة والتاريخ والولع بالمعرفة التراثية وسير النبلاء من العلماء الأوائل من ناحية، والخط الإعلامي المعني ببرامج الإذاعة والصحافة ومناخ الإبداع الحديث من ناحية أخرى.
من إسهاماته في هذا الجانب، برنامجه الإذاعي اليومي الشهير «قاموس المعرفة» الذي امتد لقرابة نصف قرن من الزمان، ومنه ندرك أنه كان آخر العنقود في سلسلة الأزهريين الكبار الذين أثروا عصر المعلومات الجديد بزبدة خبرتهم المعتقة في المعارف القديمة.. وإن كان رفاقه القدامى يعتبرونه "أزهريا فاسدا" لخروجه عن النهج السلفي خاصة في كتابته الإبداعية، وقد كان فياض لا يدخر وسعا في كشف مثالبهم بروحه النقدية العالية، كما سجل ذلك غير ناقد ومحلل لأعماله.
وجه آخر من وجوه سليمان فياض، خارج دائرة الإبداع الأدبي والقصصي، هو وجه اللغوي المحترف، والمعجمي الرصين، الذي يعكف على تأليف الكتب والدراسات اللغوية والنحوية لا من باب تكرار واجترار المادة اللغوية القديمة، بل مجتهدا في اختراع طرق عرض جديدة واكتشاف طرق تصنيف مبتكرة، ليخرج بعد هذا الجهد العنيف كتبه التي يعدها المشتغلون باللغة والنحو من أهم المحاولات الحديثة لتذليل القواعد النحوية والصرفية للغة الضاد وتيسير فهمها لأكبر قطاع ممكن من الناشئة والدراسين في مراحل التعليم الأساسي؛ ومنها على سبيل المثال: «معجم الأفعال الثلاثية»، و«أنظمة تصريف الأفعال العربية»، «الحقول الدلالية الصرفية للأفعال العربية»، و«معجم المأثورات اللغوية والتعبيرات الأدبية»، و«النحو العصري»، و«الأفعال العربية الشاذة»، و«أزمنة الفعل العربي»، و«استخدامات الحروف العربية»، و«معجم السمع والمسموعات».
ربما كانت وفرة الكتابات في هذه المجالات المتعددة خارج دائرة الإبداع، أحد الأسباب التي دعت بعض النقاد إلى اعتبار أنه "استنفد طاقته الإبداعية العالية في كتابات لغوية وتعليمية وإذاعية، جعلت حصيلته الفنية أقل بكثير مما كان يعد به، إذ لا تتجاوز عدة مجموعات قصصية وروائية موزعة على أكثر من نصف قرن"، هذا رغم الاعتراف بأنه "شيخ من شيوخ القص في مصر والوطن العربي"، يمتلك موهبة سردية فذة، لصيقة بالواقع والمتخيل المشاكل.
بالتزامن مع ذكراه الأولى، صدر كتابان يتعرضان بالنقد والتحليل لجوانب من مشروع سليمان فياض الكتابي، أولهما كتاب الناقد والأكاديمي جابر عصفور «المقاومة بالكتابة ـ قراءة في الرواية المعاصرة»، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية. والثاني مخصص بكامله لسليمان فياض وعنوانه «سحر السرد ـ مقالات عن إبداعات سليمان فياض» عن الهيئة العامة للكتاب، ومن إعداد سمر إبراهيم.
يهدي جابر عصفور كتابه إلى "روح الفارس النبيل سليمان فياض.. صديقي الحكيم وأخي الوفي"، ويخصص الفصل الثالث من القسم الثاني من الكتاب لتقديم قراءة تحليلية مفصلة لأشهر وأهم أعماله الروائية عبر 4 مقالات مستفيضة نشرها عصفور في جريدة الحياة العام 2001، قدم دراسة شاملة لأهم وأشهر إبداعات سليمان فياض في الرواية «أصوات» التي صدرت طبعتها الأولى في عام 1971.
ويرى عصفور أنه لم يكن من قبيل المصادفة إطلاق كلمة «أصوات» عنواناً على رواية سليمان فياض، التي تنبني على تقنية الأصوات المتعددة للشخصيات، وذلك على نحو نسمع معه من كل شخصية من شخصيات القص الفاعلة ما يجسّد وجهة نظرها، أو موقفها المتعين من الحدث الرئيسي الذي تدور حوله الرواية، معتبرا أن صيغة جمع الأصوات - من هذا المنظور - إشارة إلى تعدد الرواة داخل السرد، وتولِّى كل راوٍ حكاية الحدث، كله أو بعضه، من زاوية بعينها، وعلى سبيل التزامن أو التعاقب، وذلك بصوته الخاص الذي يتجاوب وغيره من الأصوات في النسق البنائي العام.
ويرى عصفور أن تلك تقنية تتيح لكل شخصية الحفاظ على اختلافها في التعبير عن نفسها، أو عن ما تراه هي بالقياس إلى بقية الشخصيات، سواء في علاقات الموازاة أو المشابهة أو المناقضة. ولذلك يمكن أن نتصور رواية «أصوات» بوصفها نوعاً من الخيال الحواري القائم على تنوع الرؤى، والمناقض بتعدده الصوتي البوليفوني الأحادية الصوتية المونوفونية التي تجعلنا نرى واقع الحدث الرئيسي من خلال منظور واحد فحسب.
أما سمر إبراهيم فقد أعدت كتابًا توثيقيا مهمًا عنوانه «سحر السرد ـ مقالات عن إبداعات سليمان فياض»، صدر عن الهيئة العامة للكتاب، قالت عنه إنه يكشف عن عالم سليمان فياض المتعدد في القصة والرواية، وسير الناشئة، والفكر، واللغة، وكيف تتشابك كتاباته مع الواقع الراهن، وما زالت هذه الكتابات تدلي بدلوها في قضايا معاصرة ما زالت تحتاج لمزيد من المراجعة والكشف والإضاءة، من أبرزها: التخلف، الجهل، الخلافة الإسلامية، الفتوى..
يرسم هذا الكتاب، بحسب سمر، علاقات سليمان فياض برفاق جيله، والأجيال التالية، وتطور فن القص لديهم، موضحة أنه يضم أكثر من خمسين مقالا لكبار النقاد والمثقفين والصحفيين المصريين والعرب، ومنهم: جلال أمين، جورج طرابيشي، سامي خشبة، سلوى بكر، سيد خميس، شعبان يوسف، صبري حافظ، صلاح فضل، علي الراعي، فاروق عبد القادر، فؤاد قنديل، غالب هلسا، محمد بدوي، محمود أمين العالم، وغيرهم.
كما أوضحت سمر في مقدمتها للكتاب أن "هذه المقالات ليس كل ما كتب عن سليمان فياض، فليس هناك كتاب أو مقال أو دراسة علمية عن القصة القصيرة والرواية أو تاريخ السرد، أو وصف لاتجاهاته الفنية لم يرد فيها ذكر لسليمان فياض، ولكنني كما ذكرت في المقدمة اعتمدت في هذا الكتاب المقالات التي خصصت لعمل واحد من أعمال سليمان فياض أو مجمل أعماله، أي أنها لم تعرض في الكتاب للأخبار أو العروض الصحفية القصيرة، أو المقالات أو الشهادات أو البورتريهات عن سليمان فياض الإنسان بالرغم من كثرتها، فهذا الجانب سأغطيه في جزء ثان قريبًا. وقد جاء تكوين الكتاب تبعا لطبيعة إنتاج سليمان فياض المتعدد ما بين القصص والروايات، والبورتريهات، والسير للناشئة، والأعمال الفكرية".
aXA6IDMuMTM2LjE5LjIwMyA= جزيرة ام اند امز