بهذه الصيغة التقليدية التي نصادف عبارات مثيله لها دائما في فواتح كتب التراث العربي في العصور الوسطى، استهل إسماعيل الخشاب نصًّا
"بسم الله الرحمن الرحيم"
"الحمد لله الكفيل بحسن العواقب، الرافع من عمل صالحا إلي أرفع المراقي والمراتب، المرشد من عدل في أحكامه إلي أحسن المذاهب ..."
بهذه الصيغة التقليدية التي نصادف عبارات مثيله لها دائما في فواتح كتب التراث العربي في العصور الوسطى، استهل إسماعيل الخشاب نصًا غير تقليدي بين المخطوطات العربية، يعود تاريخه إلي مطلع القرن التاسع عشر، نص سجل فيه وقائع جلسات آخر دواوين القاهرة في زمن الحملة الفرنسية، وهو الديوان الذي أصدر مينو ـ ثالث قادة الحملة في مصر ـ قرارًا بتشكيله في 2 أكتوبر سنة 1800، وبدأ أعماله في الثالث من نوفمبر من السنة نفسها، واستمرت جلساته بانتظام حتى السادس من يوليو سنة 1801، قبيل رحيل الحملة عن مصر مباشرة.
وكان بونابرت قد تبني عند قدومه إلي مصر في صيف 1798 سياسة تقوم على إشراك مجموعة من أعيان المصريين في إدارة أمور البلاد في ظل الاحتلال الفرنسي، وفي هذا السياق شكل بونابرت ديوانه الأول في 25 يوليو سنة 1798 من بعض كبار مشايخ الأزهر الذين برزوا في الحياة العامة في السنوات السابقة على مقدم الحملة الفرنسية إلي مصر، وقد مر الديوان بمراحل متعددة وتوقف أكثر من مرة بسبب ثورة القاهرة الأولي في أكتوبر 1798، ثم مقتل كليبر القائد الثاني للحملة في يونيو 1800.
وبعد شهور من تولي مينو قيادة الحملة في مصر، ومع اتجاهه إلي استمرار الاحتلال الفرنسي للبلاد، قرر إعادة إنشاء الديوان ليلعب دورًا أساسيًا في مشروعه السياسي، وكان هذا الديوان يضم تسعة أعضاء من المسلمين وأربعة عشر عضوًا شرفيًا، وقد تولي الشيخ عبد الله الشرقاوي رئاسة هذا الديوان، وقام الشيخ محمد المهدي بعمل السكرتير أو كاتم السر كما تسميه الوثائق الرسمية العربية للديوان، وكان من بين أعضاء هذا الديوان المؤرخ المصري الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، كما كان للديوان وكيلًا فرنسيًا وهيكلًا إداريًا يضم كُتابًا ومترجمين، وكان الديوان يجتمع بشكل دوري منتظم، بمعدل ثلاث مرات كل عشرة أيام.
وقد صدر منذ عدة سنوات عن المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة كتابًا محققًا جديدًا في سلسلة "نصوص عربية ودراسات إسلامية" يحمل عنوان: "التاريخ المسلسل في حوادث الزمان ووقايع الديوان"، والكتاب يضم نصين منفصلين، لكنهما نصان مترابطان كل منهما يكمل الآخر، وهما عبارة عن مخطوطتين، الأولي كانت معروفة منذ فترة طويلة، وتتكون من 44 ورقة، وهي من مقتنيات المكتبة الوطنية الفرنسية، وتحتوى وقائع ديوان مينو في شهره الأخير، وهي وقائع الجلسات التي تغطي الفترة من 6 يونيو إلي 6 يوليو سنة 1801، وتحمل الأرقام من 21 إلي 31 من دواوين الوكيل الثاني ـ جيرار ـ الذي تولي هذا المنصب في 10 إبريل سنة 1801، أي المخطوطة تغطي وقائع الجلسات الإحدى عشرة الأخيرة للديوان.
أما المخطوطة الثانية، فقد اكتشفت في عام 1998 ضمن بعض الأوراق القديمة في مخزن بأحد المنازل القديمة في بار لو دوك، في منطقة ميز بفرنسا، وقد استقرت هي الأخرى ـ الآن ـ بالمكتبة الوطنية بباريس، وهي عبارة عن 265 صفحة تضم الجلسات العشرين الأولي للديوان، والتي تغطي الفترة من 3 نوفمبر إلي 30 ديسمبر سنة 1800.
ومن هنا، فإن المخطوطتين جزءان من عمل واحد: وقائع جلسات الديوان في مرحلته الأخيرة، وقد قام على تحقيق المخطوطتين وتحليلهما والتعليق عليهما بعد جمعهما في كتاب واحد اثنان من المتخصصين البارزين في الدراسات العثمانية، ينتميان إلي جيلين مختلفين، أولهما المؤرخ الفرنسي الكبير أندريه ريمون الأستاذ بجامعة بروفانس، وأحد ألمع الأسماء على مستوي العالم في دراسة تاريخ مصر والمشرق العربي في العصر العثماني، وقد قضى ما يزيد على نصف قرن من العمل العلمي الجاد والدؤوب في هذا الحقل، قدم خلال تلك الفترة عشرات الأبحاث والكتب المهمة والمتميزة التي أثرت مكتبة الدراسات العثمانية، وثانيهما محمد عفيفي أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة، الذي يعد أبرز أبناء جيله في مجال الدراسات العثمانية في مصر، وقد اتجه إلي هذا المجال الدراسي منذ أكثر من عشرين عامًا قدم خلالها عددًا من الدراسات المهمة والرائدة حول تاريخ مصر في العصر العثماني.
والنصان اللذان يحملان عنوان: "التاريخ المسلسل في حوادث الزمان ووقايع الديوان" منسوبان إلي إسماعيل الخشاب، الذي شغل وظيفة كاتب الديوان، أي أنه شاهد عيان مشارك في وقائع تلك المرحلة الأخيرة من عمل الديوان التي سجلها بقلمه.
نعود مرة أخرى إلى كتاب التاريخ المسلسل، يبدأ هذا النص الفريد بعد الافتتاح التقليدي بالإشارة إلى تشكيل الديوان وتحديد أعضائه، ثم يذكر الخشاب وقائع جلسات الديوان بداية من الجلسة الأولى التي تم فيها اختيار الشيخ الشرقاوي رئيسًا للديوان والشيخ محمد المهدي كاتمًا للسر، وهي الجلسة التي تم فيها كذلك الاتفاق على دورية انعقاد الجلسات ونظام العمل فيه، ويؤرخ الخشاب جلسات الديوان بالتقويم الهجري والتقويم الجمهوري الفرنسي معًا، ويسمي كل جلسة من الجلسات ديوانًا، ويسرد في كل ديوان ملخصًا لما جرى من مناقشات حول الموضوعات المطروحة على الأعضاء، وما صدر عنه من توصيات وقرارات.
ومن القراءة المدققة التي قام بها المحققان تبين لهما أن النص كتب في فترة تالية للوقائع التي يسجلها، كما أن اختلاف الرسم الإملائي بين المخطوطتين يؤكد من ناحية أخرى أن هناك ناسخ مختلف لكل جزء من جزءي الكتاب.
وجلسات الديوان تقدم تفاصيل دقيقة لجوانب متنوعة من حياة المصريين، خاصة القاهريين منهم في الأشهر الأخيرة للحملة الفرنسية في مصر، وهي جوانب تغفلها المصادر التاريخية التقليدية عادة، وتدور كثير من القضايا التي يناقشها الديوان حول شكاوى الناس الذين يلجؤون إلى الديوان كوسيط بينهم وبين سلطة الاحتلال لرفع الظلم الواقع عليهم، وكان الديوان يبادر برفع الشكاوى إلى قائد الحملة (صاري عسكر) أو وكيله، هذا وتحتفظ مكتبة جامعة القاهرة بأصول بعض الالتماسات المرفوعة لقيادة الحملة ضمن مجموعة وثائق الحملة الفرنسية بقسم المخطوطات بالمكتبة.
ويتضمن الكتاب الذي نحن بصدد عرضه النصوص المحققة باللغة العربية، مع كشاف للأماكن وآخر للأعلام، ودراسة تحليلية لعمل الديوان باللغة الفرنسية قام بها المحققان، إلى جانب مقدمتهما وتصديرهما للعمل، ثم تقديم جان فرنسوا كليمنت مكتشف المخطوطة التي تضم وقائع الجلسات العشرين الأولى، ويحكي فيه قصة هذه المخطوطة في ثلاثة عناصر موجزة يتناول فيها: ظروف اكتشاف المخطوطة، وخصائصها، وبعض الافتراضات حول أصلها، كما تقدم ماري جنيفياف جيدون أمينة القسم العربي في قسم المخطوطات الشرقية بالمكتبة الوطنية بباريس نبذة عن المخطوطتين، وكل ذلك باللغتين العربية والفرنسية.
ويعتبر هذا العمل إضافة مهمة إلى المصادر المتاحة عن فترة الحملة الفرنسية على مصر والشام، حيث يغطي جانبًا جديدًا من جوانب تاريخ مصر في تلك المرحلة، خاصة أن كاتب هذا النص هو أحد المعاصرين للأحداث والمشاركين فيها، ومن هنا فإن النص يرقى إلى مصاف المصادر الأصلية، أو ما يسمى بمصادر الدرجة الأولى، إذ إننا أمام سجل حافل بتفاصيل الحياة اليومية للناس من ناحية، وما يشبه المضبطة لوقائع هيئة شبه تمثيلية تعتبر الأولى من نوعها في تاريخ مصر الحديث من ناحية ثانية.
لكن تبقى نقطة مثيرة للتفكير في هذا النص المكون من جزءين، فالمفترض أن يكون هذا الديوان قد عقد ما يزيد عن ثمانين جلسة، بينما لا يضم النص سوى وقائع الجلسات العشرين الأولى، والجلسات الإحدى عشرة الأخيرة، وبينهما فجوة زمنية تبلغ خمسة شهور؛ أي أن أكثر من نصف الجلسات غير مضمن في هذا العمل، واللافت للنظر أن النص يبدو مكتملًا من الناحية الشكلية فالجلسات مسلسلة في الجزء الأول من الجلسة الأولى إلى الجلسة العشرين، وينتهي بعبارة: "نجز الجزء الأول بحمد الله وعونه"، فنحن إذًا أمام نص مكتمل، بينما يبدأ الجزء الثاني بالبسملة وعبارة الدعاء، ثم رقم الجلسة، وقد حدده الناسخ بأنه "الديوان الحادي والعشرون من دواوين الوكيل الثاني".
وقد ذهب المحققان إلى احتمال أن تكون باقي المحاضر قد فقدت من الخشاب خلال الفترة ما بين عمله في الديوان وجمعه لهذا النص، أو أنه استبعدها لسبب رآه هو ولا نعرفه، لكن يبقى هناك احتمال ثالث يشي به ترقيم جلسات الجزء الثاني، الذي يبدأ بالديوان الحادي والعشرين من دواوين الوكيل الثاني، فربما قسم الخشاب عمله إلى قسمين كبيرين وفقًا لمدة ولاية كل وكيل من وكيلي المجلس، وإن كل قسم يتكون من جزءين أو أكثر، بمعنى آخر فإن هناك نصًا مفقودًا يضم باقي أعمال الديوان في عهد وكيله الأول جون جوزيف فورييه، في جزء أو أكثر، كما أن هناك جزءًا أول مفقودا أيضًا، يضم وقائع الجلسات العشرين الأولى من أعمال الديوان في فترة وكيله الثاني، إنها مجرد محاولة لتفسير الفجوة في محاضر الجلسات، قد تكشف الأيام صوابها، وقد تكون مجرد شطحة من شطحات الخيال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة