منذ بضعة أيام حضرت ندوة عن مشاكل المياه فى دول مجلس التعاون الخليجى. لقد غطت الأوراق الأربعة الكثير من الجوانب الفنية والتنظيمية
منذ بضعة أيام حضرت ندوة عن مشاكل المياه فى دول مجلس التعاون الخليجى. لقد غطت الأوراق الأربعة، المكتوبة بحرفية معرفية عالية المستوى، الكثير من الجوانب الفنية والتنظيمية لمشكلة المياه فى هذه المنطقة الصحراوية الجافة، من مثل التناقص الشديد فى كمية الأمطار، ومثل التراجع فى كميات المخزون الأرضى بسبب الزيادة الرهيبة فى استهلاك المياه الناتجة بصورة أساسية عن الزيادة المطردة فى عدد سكان دول مجلس التعاون من جراء استقدام الملايين من العمال والمقيمين والمجنسين، ومن مثل التبذير فى استهلاك المياه بسبب بعض العادات الاجتماعية وقلة الوعى البيئى وهيمنة عقلية وثقافة الاقتصاد الريعى الذى يؤدُى إلى مجتمع مدنى غير معنى بحاجات المستقبل وبحقوق أجيال ذلك المستقبل، ومن مثل عدم الاستفادة الكفؤة من إعادة استعمال مياه الصُرف الصحى الذى يذهب جزء كبير منها هدرا ليتبخُر أو يصبُ فى البحار أو يتسرب إلى المياه الجوفية.
فى مجملها خرجت الأوراق بنتيجة مشتركة وهى إمكانية انعدام الأمن المائى فى المستقبل القريب، وبالتالى حتمية مواجهة مجتمعات الدول الست لمصاعب حياتية معيشية كبيرة.
لكن مناسبة انعقاد تلك الندوة واهتمامها الشديد بموضوع الأمن المائى تطرح سؤالين محوريين.
الأول: هل أن انعدام الأمن المائى هو ظاهرة تختص بها دول الخليج العربى أم أنها ظاهرة عربية قومية بامتياز تشمل كل أقطار الوطن العربى؟ وبالتالى فان علاجها يحتاج أن يتناغم ويتكامل مع العلاج العربى الشامل.
إن العراق وسوريا، مثلا، يواجهان الآن تناقصا حادا فى كميات مياه نهرى دجلة والفرات، لقد اعتقد القطران منذ العشرينيات من القرن الماضى بأن لديهما أمنا مائيا بسبب اتفاقات قديمة مع تركيا تصنُف النهرين كأنهر دولية لا يمكن المساس بمياههما إلا بموافقة دولة المنبع ودولتى المصب. لكن شبه الانهيار الكامل لسلطة الدولة فى القطرين بسبب الصراعات الداخلية وتكالب الخارج المتآمر جعلهما غير قادرين على حماية حقوقهما المائية. والأمر نفسه ينطبق على مياه نهر النيل التى تتراجع كمياتها بسبب تآمر إثيوبى – صهيونى لإضعاف مصر ولى ذراعها، وعلى مياه نهر الأردن التى يتعاظم استنزافها من قبل الكيان الصهيونى، وعلى مياه نهر الليطانى فى لبنان التى تتهددها الأطماع الصهيونية.
تلك أمثلة فقط على الترابط الوثيق بين الأمن المائى، ومثله الأمن الغذائى والدوائى وغيرهما، وبين الأمن العسكرى. ولأن الأمن العسكرى القطرى سيبقى هشا وقابلا للانكسار، كما حصل فى العراق وسوريا، فإن الأمن العسكرى العربى، على المستوى القومى، سيبقى هو الحل. ونحن نورد مثال الترابط بين الأمن المائى على المستوى المحلى وعلى المستوى القومى وبين الأمن العسكرى على المستوى القومى لنعيد التذكير بأن كل الحلول المحلية لأى أمن مطلوب، وفى أى ساحة، لن يكون أمنا صلبا وقابلا للديمومة إلا إذا كان تحت مظلة الأمن القومى العربى الشامل. ولن يستفيد أحد من التشكيك فى تلك البديهة.
***
أما السؤال الثانى فهو: هل كان بالإمكان تجنب وصول مجتمعات مجلس التعاون إلى المشكلات المائية التى تواجهها الآن؟ هذا موضوع الكتاب، ولكن لنذكر بعض الأمثلة كجواب جزئى على السؤال.
المثال الأول هو أنه منذ أكثر من ثلاثين سنة طرح البعض فكرة ربط شط العرب بقنوات مياه تصب فى دول الخليج العربية. لكن دخول العراق فى مغامرات جنونية لا معنى لها وتردُد بعض قيادات الخليج العربية قضى على تلك الفكرة. وكالعادة ضاعت فرصة ذهبية لربط العراق ربطا حياتيا بأخواته دول مجلس التعاون بسبب بلادات الحياة السياسية العربية.
المثال الثانى هو أنه منذ أكثر من ثلاثين سنة قدُمت اقتراحات بشأن اتفاق دول مجلس التعاون على إنشاء محطتين بحريتين أو أكثر لتفريغ ومعالجة مخلفات السفن الناقلة للبترول بدلا من تفريغها مباشرة فى مياه الخليج وتلويثه. لقد كان فى ذهن المقترحين المحافظة على الثروة السمكية فى الخليج ومساعدة محطات تحلية المياه حتى لا تواجه مشاكل التلُوث. ومرة أخرى تجاهلت دول مجلس التعاون المقترح لتواجه اليوم تناقص الثروة السمكية وتعقيدات التلوث فى محطات تحلية المياه.
المثال الثالث هو العشرات من التوصيات التى قدمت بشأن عدم الشطُط فى التوسُع العمرانى والتوسع السكانى، إلا للضرورات القصوى، دون أن يرافقهما توفٌر آمن للماء والغذاء والخدمات الاجتماعية العامة والخاصة وعدم الإضرار بالهوية الثقافية. لكن مجلس التعاون لم ينجح فى مواجهة هذا الموضوع المعقُد واتخاذ قرارات ملزمة تضبط هذه الأخطار الأمنية.
المثال الرابع هو الأصوات التى بحت وهى تنادى بضرورة بناء القدرات البحثية والتطويرات التكنولوجية فى الجامعات وفى مراكز بحوث متخصصة من أجل عدم الارتهان فى يد الخارج بالنسبة لمواضيع عديدة ومن بينها بناء صناعة وطنية لتحلية المياه، وذلك من منطلق أن تحلية المياه فى هذه المنطقة الجافة القاحلة أصبح قضية حياة أو موت لمستقبل المجتمعات والأجيال. وهذا الموضوع لم يعالج أيضا بالجدية الكافية، بالرغم من توفٌر المال لعمل كل ذلك وأكثر.
وإذن فمواضيع الأمن فى أى ساحة، وعلى أية مستويات، هى ليست مواضيع فنية فقط أو محدودة فى حقل مستقل منعزل. إنها مواضيع ترتبط باتخاذ قرارات سياسية كبرى سواء على المستوى الوطنى أم على المستوى القومى. وهنا تكمن الكوارث العربية حيث يهيمن على السياسة الجهل والإهمال وقصر النظر، فينعدم الأمن فى كل شىء.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة