لا بد لنا هنا من تفرقة بين مصطلحين غالبا ما يتداخلان وينجم عن تداخلهما آثار مدمرة: مفهوم المستقبل ومفهوم الغيب
لا بد لنا هنا من تفرقة بين مصطلحين غالبا ما يتداخلان وينجم عن تداخلهما آثار مدمرة: مفهوم المستقبل ومفهوم الغيب. المفهوم الأخير مفهوم ديني خالص فالغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى كالحياة بعد الموت فضلا عن موعد وظروف الوفاة وما إلى ذلك؛ ومن ثم فإنه لا يخضع بتاتا للبحث العلمي، ولا شأن للعلوم الوضعية به مطلقا؛ أما المستقبل الذي نعنيه فهو التنبؤ الموضوعي لمسار ظاهرة معينة.
والمتأمل لتاريخ العلوم يلحظ بوضوح أن ذلك الخط الفاصل بين الغيب والمستقبل لم يكن ثابتا عبر التاريخ، فكثير مما كان يعتبر غيبا أصبح جزءا من المعرفة العلمية كمعرفة نوع الجنين أو أسباب الزلازل أو حركة الكواكب إلى آخره. ماذا تتوقس سؤال نسمعه يوميا، نوجهه إلى غيرنا، وربما نوجهه إلى أنفسنا.
نسأل الطبيب عن توقعه لمستقبل حالة المريض وتطور المرض، ونسأل الخبير الاقتصادي عن توقعاته لمستقبل الاقتصاد في بلادنا، ونسأل المدرس عن توقعاته بشأن الإنجاز المدرسي لتلميذه، ونسأل الخبير السياسي عن توقعاته بشأن مفاوضات سد إثيوبيا، إلى آخر قائمة لا تنتهي من التساؤلات تدور إجاباتها جميعا حول ملامح مستقبل لم تأت بعد. تري هل ثمة عامل مشترك أو قانون علمي يحكم إمكانية التوصل لتنبؤات دقيقة في تلك المجالات شديدة التنوع؟ هل ثمة ما يجمع بين التنبؤ باكتشاف حقل غاز وتطور مشكلة السد الأثيوبي ونتائج طالب في امتحان الثانوية العامة وإمكانية قيام ثورة جديدة في مصر إلى آخره ؟!
الإجابة: نعم. هناك قوانين ومسلمات علمية منطقية تحدد مدي اقتراب تنبؤاتنا أو ابتعادها عن الدقة؛ وبدون الالتزام بتلك القوانين والمسلمات تصبح تنبؤاتنا مجرد أوهام تريحنا أو كوابيس تزعجنا.
أولا: ينبغي لكي نتنبأ تنبؤا علميا أن نسلم ابتداء بأن لكل نتيجة مقدمة ولكل حدث سبب بسبقه، وأنه لا يوجد أمر في هذا الكون يحدث فجأة دون مقدمات.
يستوي في ذلك قيام ثورة أو إصابة بمرض أو نجاح في امتحان أو فشل علاقة زواج. كلها جميعا تسبقها نذر أو بشائر أي مقدمات تشي بقرب حدوثها. وأن تلك النذر أو البشائر قابلة للرصد العلمي، وأن آليات أو إمكانيات ذلك الرصد العلمي تطورت وتتطور بجهود العلماء عبر الزمن. وأن الطابع المفاجئ لحدث معين إنما يرجع لعجزنا عن رصد مقدماته رصدا صحيحا. بدون التمسك بتلك المسلمات؛ سوف يظل التنبؤ بالمستقبل قائما باعتباره ضرورة إنسانية، ولكنه يصبح آنذاك مجرد رجم بالغيب وقراءة للطالع وما إلى ذلك.
ثانيا: ترتبط دقة التنبؤ العلمي بحجم المعلومات الصحيحة المتاحة عن ماضي الظاهرة وتطوراتها وتفاصيل وضعها الراهن. هل يمكن لطبيب مهما كان عبقريا أن يشخص مرضا فضلا عن التنبؤ بمساره دون أن تتوافر لديه معلومات ليس عن شكوى المريض فحسب بل عن مجمل الماضي الصحي له فضلا عما قد يحتاجه من فحوص معملية ومقارنتها بفحوص سابقة؟ هل يمكن أن نتصور عالما اجتماعيا أو نفسيا أو سياسيا مهما كانت براعته يستطيع أن يتنبأ بمستقبل مشكلاتنا الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية دون أن يتوافر لديه القدر الضروري؟ ولنطرح تساؤلا بسيطا على سبيل المثال: هل معدل الجرائم في بلادنا يتزايد أم يتناقص أم أنه يميل إلى الثبات؟ الإجابة على هذا السؤال مستحيلة تماما من الناحية العلمية. لقد عرفت بلادنا الاحصاءات الرسمية للجريمة منذ عام 1920علي يد حكمدار القاهرة أو مدير الأمن بها آنذاك راسل باشا الانجليزي ثم تم تعميمها بجميع المديريات وكانت تنشر في تقارير سنوية عرفت فيما بعد باسم تقارير الأمن العام و التي ظلت متاحة للجمهور بصفة عامة و يستفيد منها الباحثون في موضوع الجريمة من مختلف تخصصات العلوم الانسانية والصحفيون و اعضاء المجالس النيابية في مناقشة السياسات الاجتماعية للحكومات وكذلك المؤسسات العقابية والاصلاحية ومؤسسات المجتمع المدني المهتمة بحقوق الانسان و بالخدمات الاجتماعية و الثقافية بل ورجال الشرطة أنفسهم.
ولكن وزارة الداخلية قررت حجب هذه التقارير عن الجمهور تماما منذ عام 1996، وكانت تلك التقارير رغم ما كان يوجه إليها من نقد تشمل بيانات عن الجرائم التي سجلتها أقسام الشرطة خلال كل عام وتوزيعها على مختلف شهور السنة، وأوقات اليوم التي ارتكبت فيه، ومناطق ارتكابها وكيفية ارتكابها وخصائص مرتكبيها حسب السن والمهنة وخصائص ضحاياها، كما تشتمل هذه الإحصاءات على مقارنات بين مختلف الجنايات والجنح والمخالفات ومقارنات بين الجريمة في السنوات السابقة.
أستأذن في مثال ثان: كانت التعدادات الإحصائية المصرية منذ عام 1882 تتضمن حصرا لأعداد المسيحيين واستمر ذلك حتى تعداد عام 1996 الذي خلا للمرة الأولي من ذلك الحصر. ولم أعرف بعد ماذا جري تحديدا عام 1996 لكي يقرر أصحاب القرار حجب تقرير الأمن العام وكذلك أعداد المسيحيين المصريين عن الجمهور والباحثين. تري هل يرجع هذا الخفاء أو الإخفاء إلى خوف متوهم على الوحدة الوطنية؟ إن ذلك يتعارض تماما مع حقيقة أن الإنسان لا يتحمل غموضا يكتنف أمرا يعنيه، ويضيق بذلك الغموض ضيقا يدفعه إلى توتر يتصاعد ما استمر الغموض بحيث لا يصبح حياله والأمر كذلك سوي تفسير الموقف الغامض اعتمادا على آماله الشخصية أو ما يروجه من يحيطون به؛ فإذا ما تعارض ذلك التفسير وهو لا بد متعارض مع تفسيرات الآخرين؛ لا يصبح أمام الجميع سوي الاحتكام للعنف بمختلف أشكاله مادام قد س تعذر الاحتكام إلى محك موضوعي يرتضيه الجميع ولو بمقدار.
خلاصة القول: إن قدرتنا بوصفنا متخصصين في العوم الإنسانية علي التنبؤ بمستقبل بلادنا أصبح يكاد يكون مستحيلا في ظل استمرار سياسة حجب المعلومات.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة