ليس بالكاريكاتير وحده يُعرف جورج بهجوري
80 لوحة ومنحوتة ورسماً تختزل أكثر من نصف قرن من التجريب الفني
اختير الفنان المصري جورج بهجوري للنسخة السادسة من عرض "علامات فارقة" ليعرض مخزونه البصري أمام الجمهور.
عندما يضع جورج بهجوري قلمه على الورقة البيضاء؛ فإنه لا يتركها إلا وهي لوحة مكتملة.. تختزل خطوط بهجوري الوجوه محللة إياها إلى عناصرها الأساسية، وفي إحدى تشبيهاته لشكل الوجه فإنه يشبهه بالتفاحة، وبرسمها يرسم الوجه لكن دون أن يرفع قلمه عن الورقة في خط متصل لا ينتهي إلا بانتهاء اللوحة.. هذه مدرسته ولطالما عرفها متابعو الصحافة المصرية من خلال المجلة الشهيرة روز اليوسف وصباح الخير التي رسم فيها الكاريكاتير، الأمر الذي قدمه إلى الناس من جانب واحد، لكن نشاطه لم يقتصر على الصحافة والرسم الكاريكاتيري، إذ تعدى إلى مختلف أنواع التجريب الفني الذي لم يتوقف عنه يوماً.
في الشارقة؛ وتحديدًا في متحف الشارقة للفنون، يمكنك التعرف على بهجوري (ولد عام 1932)، من خلال الدورة السادسة من معرض "علامات فارقة" الذي يقام سنويًّا، ويفرد مساحة واسعة للفنانين المؤثرين في العالم العربي، مقدمًا من خلال أعمالهم الفنية صورة بانورامية عن نتاجهم الفني، وهذا العام كان بهجوري (لقبه الذي يسير إلى قريته الصغيرة في صعيد مصر) المختار ليفتح مخزونه البصري أمام الجمهور، مقدمًا نفسه من خلال أكثر من 80 عملاً تختزل أكثر من نصف قرن من العطاء المستمر، بين حياته في فرنسا في الولادة الثانية كما يسميها، ونشأته ودراسته وحياته في مصر.
يبدأ المعرض بنتاجات الفنان الموقعة في الخمسينات والستينات، ولا يغيب حدث أو شخصية بارزة عن نتاجاته المعروضة، إذ نرى الثورة المصرية ورجالات مصر وأحداثها المهمة كموقعة الجمل، كما يستعيد في حنين لا يمكن إخفاؤه عظمة زمن أم كلثوم التي يضعها خلف نسر العلم المصري وكأنها تغني للثورة، فيما لا يبتعد الفنان المصري عن نبض الشارع، فمنزله في شارع شامبيلون بالقاهرة يجعله مقيمًا دائمًا في ميدان التحرير، وكثيرًا ما رافق شباب التحرير في حراكهم، ولم يكتف بهذا كتشكيلي، بل تعدى في معايشته لهذه اليوميات التي غيرت في تاريخ مصر الحديث إلى اللوحة، كما هي عادته دومًا في نقل نبض وإحساس الشارع المصري إلى لوحاته، وهو ما يتضح جليًّا في لوحات مثل الشعب المصري (1988)، ووجوه مصر (1977)، ومجموعات الوجوه الكثيرة التي يضمها المعرض، إضافة لتأريخه تاريخ مصر السياسي من خلال لوحات جمعت كل من حكم مصر منذ أسرة محمد علي وصولًا إلى السيسي، لكن دون إسقاط رأيه السياسي، بإسقاط مرور مرسي على سدة الرئاسة وتجاهله له في رسوماته، وفي هذا موقف بحد ذاته.
كما تتعرف على المقهى المصري بتطوراته في لوحاته المؤرخة، ففيما تكون الكراسي والأجساد بوجوهها الواضحة حاضرة في مقهى السبعينات، فإنها تنسحب مختزلة بطاولة النرد وألعاب الدومينو والمشروبات الساخنة من قهوة وشاي في مقاهي مطلع الألفية الثانية، إلا أن الوضوح يغيب تمامًا لصالح الضباب والوجوه الملتبسة ونظرة الخوف، وانسحاق المواطن أمام حرب الترفيه التي تبحث في الابتعاد عن واقع معاش إلى مجاز في لوحات 2005.
وأنت تتأمل لوحاته؛ تخال لوهلة أنه ينظر إليك من عين سحرية موجودة في كل لوحة، حيث يشكل رسم حرف الهاء في توقيعه نافذة مفتوحة على عالم المتلقي الصامت... وفي كل توقيع يخطه يخبرك حالته النفسية التي يعيشها، فمرة يأتي توقيعه متصلاً نزقًا، وتارة مسترخيًا وكل حرف لوحده، ومرات يغازل الإنكليزية بحرف الجيم عندما يزرعه في وسط اسمه، أو ينتصر للعامية المصرية بوضع نقاط ثلاث تحت حرف الجيم، ومرات يعود إلى الفصيح ويكتفي بنقطة، لكن المؤكد أن عينه المفتوحة على اتساعها لا تتركك وحدك.
يحملك العدد الكبير من الأعمال (أكثر من 80 عملاً) في اتجاهات متفرقة، فبينما تذهب عميقًا إلى الحضارة المصرية في أعماله النحتية، فإنك تعود إلى الكاريكاتير السياسي وحكايات المشاهير مع رسوماته الساخرة، التي بدأها صغيرًا مع عائلته ومعلميه ومدرسيه في كلية الفنون الجميلة، ولم يتوقف عنها يومًا.. ومن التغيرات الاجتماعية والسياسية التي تعيشها مصر، وصولاً إلى أم كلثوم موضوعه الأثير التي يصدح صوتها في الطبقة الرابعة من متحف الفن الحديث، ليشكل الصوت مع اللوحة مزيجًا يتوج رحلتك في عالم الفنان الغزير، وتتويجًا لمرحلة التصاعد الجمالي الذي تعيشه في رحلة اللقاء الشامل (يمكن أن يكون الأول بما يحمله من تنوع وغنىً).
ولعه بالتجريب لم يترك عالم الأدب بعيدًا عنه، فنشر رواية عنوانها "أيقونة فلتس"، تعتبر جزءًا أول في سيرته الذاتية، أتبعها بالثاني من سيرته الذاتية بعنوان "أيقونة الفن"، كما نشر رواية بعنوان "ثلاثية الرموز"، إلا أن هذا الجانب لم يكن قويًّا بما فيه الكفاية، فوصفته إحدى الصحف بــ "لص في عالم الأدب".
aXA6IDE4LjIxNy40LjI1MCA= جزيرة ام اند امز