أزمة الثقافة العربية بين تهميش حكومي وصعود تطرف عنيف
مؤتمران في "مكتبة الإسكندرية" يجمعان أكثر من 300 مثقف وكاتب
دارت معظم المناقشات بين مثقفين مصريين وعرب في المؤتمرين الذين عقدتهما مكتبة الإسكندرية حول "الوضع البائس" الذي تعيشه الثقافة العربية.
وخيم على المؤتمرين الأحداث الراهنة التي تعاني منها البلدان الغربية، وقد تناولت آخر جلساته، يوم الثلاثاء، التراث الأثري المهدد في المنطقة وواقع المؤسسات الثقافية العربية، علاوة على الهجمات التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس عشية افتتاح المؤتمر الأول، وكان بمثابة مؤتمر ختامي للمرحلة الأولى لمشروع "دعم التنوع الثقافي والابتكار في مصر" الذي نفذته المكتبة على مدى عامين بدعم من الاتحاد الأوروبي.
وهذا التحدي المتمثل في التطرف والعنف هو الدافع وراء إعلان الدكتور اسماعيل سراج الدين -مدير مكتبة الإسكندرية- في ختام المؤتمر الأول، يوم الاثنين، أن المكتبة بصدد البدء في مشروع طموح لمواجهة التطرف والعنف ومواجهة الفكر المتطرف والإرهاب، وأشار إلى أن المكتبة ستنظم قريبًا مؤتمرًا في إطار هذا المشروع، كما ستشارك في تنظيم مؤتمرات في دول عربية أخرى، منها مؤتمر يعقد في المغرب في ديسمبر كانون الأول القادم، ومؤتمر آخر في الجزائر في أبريل نيسان.
وأكد سراج الدين أن مفاهيم التنوير "هي السلاح الأكبر لمواجهة التطرف والعنف"، وتابع قائلا: إن ذلك يقتضي استمرار "المطالبة بمفاهيم المواطنة والحكم الرشيد وحقوق الإنسان، ومنها حقوق المرأة وحقوق الأقليات والتعددية وحرية الكلمة واحترام الإبداع"، وأشار إلى أن هذه الحقوق ليست منحة من الدولة لكنها حقوق مكتسبة يتعين على كل حكومة احترامها، واحترام ما تمثله من قيم، واحترام التنوع الثقافي.
هذا المشروع محور أحد ثلاث مبادرات جديدة ستبدأها مكتبة الإسكندرية لخدمة الثقافة العربية، والمبادرات الثلاث التي أعلنها سراج الدين في بداية المؤتمر الثاني؛ هي: مشروع "ذاكرة الوطن العربي" على غرار مشروع ذاكرة مصر المعاصرة الذي تنفذه المكتبة، ومبادرة "ديوانية الشعر العربي" التي ستبدأ في يناير كانون الثاني، ومبادرة الشراكة مع المؤسسات الثقافية في الوطن العربي، والتي تهدف إلى تضافر الجهود ضد القوى الظلامية وأفكار التطرف.
وتأتي المبادرة الثالثة كاستجابة من مكتبة الإسكندرية لتحدي التطرف والعنف، وكان هذا التحدي هو الشاغل الرئيسي لنحو 300 مثقف ومفكر من مصر والعالم العربي، والذي اختتم أعماله يوم الثلاثاء، وافتتح أعماله يوم الاثنين كل من الدكتور واسيني الأعرج؛ الكاتب الجزائري والأستاذ في جامعتي الجزائر والسوربون، والدكتور إسماعيل سراج الدين؛ مدير مكتبة الإسكندرية، والدكتور خالد عزب؛ رئيس قطاع المشروعات المركزية بمكتبة الإسكندرية، والدكتورة منى فياض؛ الكاتبة والأستاذة الجامعية وسالم بن حميش وزير الثقافة المغربي الأسبق.
وأشار الأعرج في كلمته الافتتاحية إلى أن الثقافة أصبحت جزئية وثانوية، وتدهورت القضية الثقافية في ظل التفكك العنيف للدولة العربية التي لا تتيح فرصة لبناء منظومة ثقافية جديدة، وأكد أن مسألة "الانفصال هي من القضايا الهامة التي يجب أن نتأملها حينما نتطرق إلى الثقافة العربية"، وأضاف أن المشروع الثقافي العربي عانى من أزمات كثيرة وممارسات غير صحيحة.
وقال الأعرج: إن "الممارسات السابقة تحتاج إلى وقفة وإلا سنعيد إنتاج المعوقات السابقة"، مشيراً إلى أن تلك الممارسات تعود بنا للقرون الوسطى، ومؤكدًا أن علاقة التيارات الإسلامية المتطرفة بالثقافة علاقة خطيرة وتدميرية، وأن الثقافة هي المستهدف الأساسي من الحوادث الإرهابية حول العالم كالحادث الأخير في باريس، الذي استهدف واحدًا من أعرق المسارح في فرنسا، هو مسرح بانكلان.
وقال الأعرج: إن الرهانات بالنسبة للثقافة العربية كثيرة وتضع الإنسان العربي في جبهة خطيرة متعددة الجوانب، وأنشأت وضعًا قمعيًّا للوضع الثقافي، وقال: إن ردود الفعل سطحية على الرغم من كثرة الورش... وأشار في سعيه لمحاولة وضع حلول للأزمة؛ إلى أن الدولة لا يمكن أن تقوم بدور الرقيب على الثقافة، بل يجب أن تكون مساهمة ومشاركة في العملية الثقافية، ومن هنا يأتي السؤال: كيف نجعل من الثقافة وسيلة للمواطنة؟
وأكد أن النقد يجب أن يكون جزءًا أساسيًّا في المشروع الثقافي العربي القادم، كما يجب أن نتخطى الرؤية التقديسية للأشياء وأن نتمكن من نقد ما أنتج سابقًا، وأضاف: "يجب أن ننظر للمسألة الثقافية من بعدها المتعدد، هل العنصر الديني مازال فاعلاً؟ ماذا نريد من المجتمع؟ كيف نتمكن من خلق جيل مميز؟"
وشدد في نهاية كلمته على أن الدولة يجب أن تحدد خياراتها، لأنه بدون المنظومة التربوية لن يمر المشروع الثقافي العربي. وقال: إن هذا المشروع يحتاج رؤية تعددية، رؤية واضحة من طرف الدولة المتبنية لمشروع المواطنة، وجهد متكاتف من المثقفين.
وانطلقت الدكتورة منى فياض الكاتبة والأستاذة الجامعية اللبنانية من التحليل الأنثروبولوجي لمفهوم الثقافة، والذي يتضمن البعد الثقافي المخفي، فالثقافة تؤثر على وجودنا ونظرتنا للأشياء، وهي تعد وسيلة للرؤية والتأويل والنظر والتعامل مع العالم، وتحتوي على الأدوات والمواثيق والمعتقدات.
وشددت فياض على أهمية الاهتمام بالتربية والمعرفة مثل الاهتمام بالعلم، فهؤلاء الذين يقومون بتنفيذ أعمال إرهابية حصلوا على تعليم تقني عالٍ، دون معرفة أسباب ابتكار التقنيات والحرية الفكرية التي سمحت لهذا الإنتاج الفكري.
ولفتت إلى مجموعة من الجوانب التي يجب الاهتمام بها لمواجهة العوائق في مجتمعاتنا العربية، وأهمها الديمقراطية وتأمين الحريات ومكافحة الرقابة بكافة أشكالها، والإصلاح الديني على مستوى العالم العربي، والمشاركة السياسية، وإصلاح التربية والتعليم، وتحفيز الابتكار والعمل والإنجاز، وحماية حرية التعبير، ومواجهة النقص في إنتاج المعرفة، ومواجهة القصور على الصعيد التربوي، والاهتمام بالتربية المدنية، والعمل على تكوين رأي عام فاعل.
العلاقة بين الثقافة والتعليم محور الكلمة التي ألقاها الدكتور سالم بن حميش وزير الثقافة المغربي الأسبق، وقد قال "إذا كان التعليم يعاني من أزمة؛ فإن ذلك يضع العالم على كف عفريت" مشددًا على أهمية القراءة والمعرفة.
ويمثل هذا المشروع من خلال التركيز على مفهوم "الصناعات الثقافية"، وضرورة وضع سياسات ثقافية للدولة أحد الإجابات الممكنة لخروج الثقاقة العربية من مأزقها الراهن، وخرج المؤتمر الأول بتقديم مسودة لرؤى لإطار عام لسياسة مصر الثقافية في السنوات القادمة، وأوضح الدكتور إسماعيل سراج أن هذه المسودة وضعت من خلال العديد من جلسات النقاش مع المشتغلين في القطاعات الثقافية المختلفة، وكذلك في ضوء النقاش الذي دار في جلسات مؤتمر "التنوع الثقافي".
ومن بين الحلول كذلك ما تضمنه العرض الذي قدمه مدير مكتبة الإسكندرية لتقريره السنوي عن نشاط المكتبة أمام المشاركين في مؤتمر المثقفين العرب، والذي ركز خلاله على كيفية تواصل المكتبة مع الجمهور، وكيفية تعاملها مع القضايا والتحديات الراهنة.