لبنان: الصحافة الورقية تترنح تحت ضغط الأزمات المالية
الخوف والتشاؤم يطغى على كل الوسط الصحفي والإعلامي في العاصمة اللبنانية، في ظل غموض يلف مستقبل مهنة المتاعب
الهزة التي أثارها كل من القرارين الإداريين اللذين أرسلتهما صحيفتين لبنانيتين عريقتين إلى موظفيهما في بيروت الأسبوع الماضي لم تهدأ، الخوف والتشاؤم يطغى على كل الوسط الصحفي والإعلامي في العاصمة اللبنانية، في ظل غموض يلف مستقبل مهنة المتاعب.
القراران إياهما أثارا مخاوف الجهات السياسية والنقابية والحقوقية على مستقبل الصحافة اللبنانية، في ظل تفاقم أزماتها المالية، وعجزها عن تأمين المستحقات، وسط تقديرات بأن العجز المالي الذي ترزح تحته الصحف اللبنانية، يقدر بملايين الدولارات.
وإبان المذكرة الإدارية التي أرسلتها صحيفة "السفير" إلى موظفيها وأعلمتهم فيها بأنها قد تضطر للتوقف عن الصدور ورقيًّا، تحت ضغط الضائقة المالية، انطلقت التحليلات التي ترجح عدم توقف الصحيفة ولا موقعها الإلكتروني وأن المذكرة ليست أكثر من تمهيد لصرف بعض الموظفين أو "ورقة ضغط" لجذب التمويل.. إلا أن الأخبار التي عادت وانتشرت بين الزملاء، أثار ذعرًا أكبر، إذ يسود قناعة لدى كثير منهم أن الإغلاق نهائي وسيشمل الموقع والصحيفة الورقية.. من دون إعلان رسمي من الصحيفة أو رئيس تحريرها طلال سلمان.
ومن جهتها كانت صحيفة "اللواء" قد عممت مذكرة أعلنت فيها "فتح باب الاستقالات" أمام الموظفين. وبالتزامن، تضع صحيفة "النهار"، وهي أقدم صحف لبنان، دراسة شاملة وخطة للاستغناء عن الموظفين، ستتضح معالمها خلال شهرين.
ويجمع العارفون في بيروت على أن "التخبط" الذي تعاني منه الصحف اللبنانية الورقية، هو "جزء من أزمة مالية عميقة تعاني منه مختلف وسائل الإعلام، الورقية والإلكترونية ووسائل الإعلام التلفزيوني"، من غير أي أشارات صدرت عن اتجاه وسائل الإعلام للتحول بالكامل نحو النشر الإلكتروني.
وقالت مصادر في جريدة "السفير"، إن "جلّ ما نعرفه، هو المذكرة الإدارية التي صدرت، وتحدثت فيها الإدارة عن إمكانية إقفال النسخة الورقية"، مؤكدة في تصريحات لـ"العين" أن الموظفين "لم يبلغوا بأي تفاصيل إضافية بعد". وأشارت المصادر إلى أن الموظفين "يعيشون قلقًا بالغًا حتى اتخاذ القرار النهائي"، قالت ان القرار "يُفترض أن يصدر أواخر الشهر الحالي في الذكرى 42 لصدور الجريدة".
وفي المقابل، أبلغت جريدة "النهار" موظفيها أنها لن تقفل نسختها الورقية، مؤكدة "إننا نمر بأزمة مالية"، طالبة من جميع العاملين التعاون مع الصحيفة بغرض "تخطي الأزمة"، كما قال موظف في "النهار" لـ"العين".
وتلتقي تلك المعلومات مع ما أكدته الصحفية في جريدة "النهار" مي أبي عقل بأن "لا نية لصرف موظفين بتاتًا، ولم نتبلغ اي شيء من هذا القبيل"، معتبرة في تصريحات لـ"العين" أن تلك الأنباء عن صرف الموظفين "تندرج في إطار الشائعات". وقالت: "هناك خطة إصلاحية تضعها الصحيفة منذ وقت".
غير أن تلك المعلومات، لا تنفي وجود "خطة لإعادة الهيكلة في الصحيفة"، رغم أن لا شيء رسميًا بعد. وقال الموظف في "النهار" الذي رفض الكشف عن اسمه، إن خطة إعادة الهيكلة "تعني إمكانية الاستغناء عن موظفين قدامى ومراسلين في المناطق، وتقنيين، بهدف مواءمة الانفاقات مع المداخيل، وتعزيز الإنتاجية من غير ضغوطات مالية".
وتفاقمت الأزمة المالية للصحف اللبنانية، أثر تراجع سوق الإعلانات إثر الازمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، فضلًا عن تراجع تقديمات الداعمين، سواء أكانوا سياسيين أو هيئات اقتصادية، في وقت تدنت المداخيل العائدة مما يُسمى في بيروت "المال السياسي"، وهي عائدات عادة ما تُضخ في الانتخابات البرلمانية والمحلية، فقد مرت 7 سنوات تقريبًا على عدم إجراء انتخابات، مما حرم وسائل الاعلام من الترويج للمرشحين على شكل دعاية انتخابية.
ولم تعتمد معظم الصحف المحلية، منذ الثمانينيات من القرن الماضي على أقل تقدير، على المداخيل العائدة من مبيعات الصحف، فثمن الجريدة البالغ ألف ليرة لبنانية، ما يعادل ثلثي الدولار الأميركي، غير قادر على تغطية كلفة الإنتاج، وسط معلومات مؤكدة عن تراجع عدد المبيعات منذ العام 2011، وبالتالي، تراجع الاعداد المطبوعة.
ويؤكد مهدي نعنوع، صاحب شركة نعنوع لتوزيع الصحف والمطبوعات في بيروت بأن الصحف الورقية أمامها 5 سنوات قبل إنقراضها، فالصحافة الورقية تشبه الشجرة التي أصيبت بمرض خطير ويصعب مداواتها. مضيفًا "أن نسبة المبيعات كل سنة تتراجع بنسبة تتراوح بين 8 و10%".
ويقول نعنوع: " كل العاملين في القطاع يبحثون عن مهن أخرى، وأولهم أنا؛ لأن عملنا سيتوقف بعد سنوات، ولكن للأسف هذا الامر سيؤثر سلبًا" على الأجيال القادمة التي ستنقطع علاقتها مع الورق وهذا ينطبق على لبنان والدول العربية.
ويتأسف نعنوع كيف أن الدولة اللبنانية لا تدعم هذه الصحف بعكس الدول الأوروبية، بحيث قامت الحكومة الفرنسية منذ فترة بدعم الصحف الفرنسية ب 5 مليون يورو بعد أن واجهت مشاكل مادية هددت بإغلاقها.
ويتحدث نعنوع كيف تراجعت نسب مبيعات الصحف منذ حوالي 10 سنوات بعد أن كانت تبيع يوميًا بين 40 و 50 ألف جريدة، أما في الآونة الاخيرة فإن مجمل الصحف في لبنان تطبع يوميًّا" حوالي 60 ألف صحيفة، ولا يباع من مجموع كل الصحف إلا حوالي 15 ألف صحيفة، حتى إن هناك بعض الصحف تبيع 500 صحيفة يوميًّا" فقط.
وتبدو هذه الأرقام متفائلة جدًا لمصدر خاص بـ"العين" في إحدى أهم شركات التوزيع في لبنان، إذ يقول إنه على الرغم من تغيب الأرقام الدقيقة في بيروت عن عدد النسخ المطبوعة يوميًا، كون هذه القضية تدخل في سياق "أسرار الصحيفة"، لأنها تدخل في اطار الخطط التسويقية لجذب المعلنين، إلا أن الصحف الورقية باتت تطبع يوميًا نسخًا تتفاوت بين ألف و 6 آلاف نسخة، يجري توزيعها على نحو 1800 نقطة توزيع في كل الأراضي اللبنانية. ولفتت المصادر إلى إن الأرقام "تتفاوت بين حجم الجريدة، ومدى انتشارها"، مشيرة إلى أن بعض الصحف "تضاعف أعداد النسخ لديها لتصل إلى الآلاف حين تنشر مادة حصرية تجذب الجمهور، ولا تنشرها على موقعها الإلكتروني قبل اليوم الثاني".
واستشهدت المصادر بأعداد جريدة "السفير" التي تضاعفت إبان حرب تموز (يوليو) 2006، وجريدة "المستقبل" حين نشرت حصريًا القرار الاتهامي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان في العام 2007، وجريدة "الأخبار" حين نشرت حصريًا وثائق "ويكيليكس".
وفي ظل الأزمة الحالية، يؤكد المعنيون أن الاتصالات على أعلى المستويات السياسية، ستفضي إلى منع انهيار الصحافة الورقية. وقالت أبي عقل، وهي عضو في نقابة المحررين اللبنانيين، إن ما جرى "يمثل صرخة كبرى لمنع إقفال الصحف الورقية في بيروت؛ لأن ذلك يخالف طبيعة المدينة التي تتسم بحرية النشر والرأي والطباعة"، معتبرة ذلك "ضربة للحريات في المدينة"، وبالتالي "سنتجنب جميعًا الوقوع في الهاوية".
وقالت أبي عقل، إن الأزمة قديمة، "لكن وسائل الاعلام كما الدولة اللبنانية، لم تأخذ الاحتياطات اللازمة لمنع الوصول إلى هذه المرحلة كما لم تلعب دورًا انقاذيًا"، مؤكدة أن الخطوة التي أعلنت عنها نقابة المحررين الأربعاء "انقاذية وشاملة عبر وضع الدولة أمام مسؤولياتها؛ لأن أزمة الصحف، هي جزء من أزمة أكبر، مرتبطة بأزمات اقتصادية وسياسية وثقافية ومهنية تطال البلاد". كما أشارت إلى أن أزمة الصحف الورقية "تنسحب على أزمة بعض القنوات التلفزيونية التي لم يتقاضى موظفوها رواتب منذ أشهر، كما تطال المواقع الإلكتروني، وهو ما يستدعي تدخل الحكومة للمشاركة في إيجاد الحلول والحفاظ على واحة الحرية التي يمتاز بها لبنان".
وكانت نقابة "المحررين" قد أعلنت عن اتخاذها القرار بـِ"التصدي للأزمة بتحرك واسع من خلال عقد اجتماعات مع رئيسي المجلس النيابي والحكومة ووزيري الإعلام والعمل والبحث في وسائل تأمين ديمومة عمل الصحافة اللبنانية واستمراريتها".. من دون أن يصدر أي قرار أو إعلان عنها بعد ذلك.