جرى العرف عادة أن يتساءل الأمريكيون عن هوية رئيسهم الجديد بعد مائة يوم، حيث تكون ملامح ومعالم خططه الجديدة قد اتضحت بصورة أو أخرى.
ومع مرور عام، يبدأ غالبًا النظرُ إلى حساب الحصاد خلال اثني عشر شهرًا أمضاها رجل أمريكا الأول في "البيت الأبيض".
يبقى العام الأول مهمًّا في كل الأحوال، ذلك أنه يعطي انطباعًا عن مسيرة السنوات الثلاث الباقية في المدة الرئاسية، وفي معظم الأحيان يسعى الرئيس، أي رئيس ديمقراطي أو جمهوري، إلى تقديم أفضل ما لديه من مشروعات في عامه الأول، وبلورة أفضل سياسات لخدمة مواطنيه والسياسات الأمريكية بشكل عامٍّ.
ولعل العام الأول كذلك يضحي مهمًّا بصورة أكبر من جراء الاستعداد لانتخابات التجديد النصفي للكونجرس، والتي تجري في العام الثاني من ولاية الرئيس، فيما الاستعدادات لها تقف على قدم وساق مع نهاية العام الأول.
ويبقى أمام الرئيس احتمالٌ من ثلاثة احتمالات:
إمّا أن يسيطر حزبُه على الكونجرس بغرفتَيْه، النواب والشيوخ، وهنا لا يجد صعوبةً في تمرير ما يراه من مشروعات ارتكانًا إلى الأغلبية التي يحوزها حزبه، وإمّا أن يخسر تلك الأغلبية في المجلسَيْن معًا، وساعتَها يضحي في مواجهة عقبات صعبة.
وغالبًا ما تتم تهيئة الأجواء لرئيس من الحزب المناوئ، فيما الاحتمال الثالث يدور حول الفوز بغرفة وخسارة أخرى، وساعتها تكون العصا قد عادت إلى الدواليب، لا سيما إذا كان مجلس الشيوخ الأمريكي مُسيطَرًا عليه من قِبَل الحزب المناوئ للرئيس.
ماذا عن الرئيس "بايدن" وسط هذه الجلبة الواسعة التي تصم الآذان؟
لعل أهم وأخطر تحدٍّ كان ولا يزال في طريق الرئيس "بايدن" هو محاولة إصلاح حال النسيج المجتمعي الأمريكي، والذي تعرَّض لحالة من الاهتراء الشديد في العقود الأخيرة، ولا يضحي من العدل تحميلُ الرئيس ترامب تَبِعات هذه الإشكالية، فهناك من التراكمات والرواسب ما يفوق نتاج عمل أربع سنوات من عمر إدارة ترامب اليتيمة.
يبدو أن "بايدن" لم يُفلِح فلاحًا ملحوظًا في هذا الإطار، والدليل على ذلك نتائج حزبه الديمقراطي السيئة في الانتخابات التي جرت الأسبوعَ الماضي في عدد من المدن والولايات الأمريكية، حيث لحقتْهم هزائم لم تكن متوقَّعة في أول اختبار انتخابي كبير، فيما يُعَدّ استطلاعًا للرأي حول شعبية "بايدن" في مواجهة شعبية ترامب والجمهوريين، أولئك الذين يعدون العُدّة لانتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني القادم 2022، عطفًا على العمل بهدوء، لكن بتنظيم دقيق وجَبّار، بهدف خوض الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2024، سواءٌ كان ترامب هو المرشَّح أو قرّرت القواعد الجماهيرية للحزب الجمهوري اختيار مرشَّح بديل، وإن كان ترامب لا يزال حَجَر الزاوية حتى الساعة بالنسبة للجمهوريين.
خسر الديمقراطيون في فيرجينيا ونيوجيرسي وغيرهما من الولايات والمقاطعات، فيما فاز الجمهوريون، الأمر الذي اعتُبِر ولا يزال إشارةً واضحة إلى وقوف، بل وصمود، نحو أربعة وسبعين مليون ناخب أمريكي وراء ترامب، هؤلاء الموقنين بأنّ الانتخابات الماضية 2020 قد جرى "تزويرها" من قِبَل "الدولة الأمريكية العميقة"، بهدف إبعاد الرئيس ترامب عن الساحة السياسية، فالرجل جاء من خارج المؤسَّسة التقليدية، وكان من الواضح أن الجميع يعمل ضدَّه، سواءٌ من الديمقراطيين أو حتى بعض من أعضاء حزبه من الجمهوريين.
تقول شبكة الأخبار الأمريكية الشهيرة "سي. إن. إن"، في تحليلها لما جرى للديمقراطيين، إن أسباب الهزيمة التي حاقت بهم متعددة، أبرزها سوء تقدير قيادات الحزب للحالة المزاجية العامة في البلاد، في إشارة إلى الانقسام الحزبي وتبنّي نظريات سرقة "بايدن" الانتخابات الماضية من ترامب.
والثابت أنه فيما الحزب الديمقراطي منقسمٌ على نفسه بشأن الأجندة التشريعية وأجندة الاتفاق على البنية التحتية والقضايا الاجتماعية، يركّز الجمهوريون على قضايا محدَّدة تشغل بال الناخبين بشكل أكثر إلحاحًا، مثل تباطؤ تعافي الاقتصاد وارتفاع أسعار الغاز وأسعار الخضراوات وارتفاع معدَّلات الجريمة وحقوق الوالدين في التأثير على المناهج، التي يدرسها أبناؤهم في المدارس العامة.
حين صاح بيل كلينتون، المرشّحُ الشابّ القادم من ولاية أركانساس، ومن غير خبرة كافية لإدارة شؤون الإمبراطورية المنفردة بمقدَّرات الكون عامَ 1992، بقوله "إنه الاقتصاد!"، فقد أصاب كبد الحقيقة، ذلك أن ما يهم المواطن الأمريكي أول الأمر وآخره هو معركته الداخلية مع الحياة، ومدخوله آخر الأسبوع للإنفاق منه في العطلة، الأمر الذي يفوق بمراحل لا تُحصَى الاهتمام بالصراع حول تايوان.
تُبيِّن لنا البيانات الواردة من الداخل الأمريكي أن الاقتصاد الأمريكي، ورغم صيحات التهليل من قِبَل "بايدن" وإدارته، نما بأبطأ وتيرة خلال الربع الثالث من العام الحالي، مع زيادة الإصابات بفيروس كورونا، ما فرض المزيد من الضغوط على سلاسل التوريد العالمية، وأدى إلى نقص سلع مثل السيارات والرقائق الإلكترونية، الأمر الذي قَلَّصَ إنفاق المستهلكين.
ولعلّ المتابِع لحالة الاقتصاد الأمريكي من الداخل يدرك كيف أن الطلب قويٌّ على السلع بشكل لا يُصدَّق، لكن الشركات تكافح للعثور على العمال والإمدادات، وهو ما يؤدي إلى رفع الأجور والأسعار، كل ذلك على خلفية يتلاشى فيها الوباء، السبب الأصلي للتشوهات الاقتصادية، ولكنه لم يختفِ ولا يعرف أحدٌ كيف يمكن أن تكون نهايتُه أو ما إذا كان سيضرب مَرّةً أخرى من جديد.
هل لشخص "بايدن" نفسه دورٌ في فقدان الديمقراطيين في الحال والاستقبال الفوزَ المشكوك فيه عام 2020؟
بعيدًا عن شخص الرجل، فإن ملامحه السياسية وعبر أربعة عقود مارس فيها العمل السياسي لم تكن كاريزماتية، فهو ليس الجنرال أيزنهاور، القائد المنتصر في الحرب العالمية الثانية، كما أنه ليس كينيدي بوسامته وشبابه المتدفق وقدرته على مواجهة السوفييت.
"بايدن" ليس "ريجان"، الرئيس الذي لم ينسَ يومًا أنه كان فتى هوليوود، كما أنه قَصَّرَ عن أن يحقق تفوق "كلينتون" الاقتصادي.
ينظر الأمريكيون إلى سجل "بايدن" خلال العام على صعيد السياسات الخارجية فلا يجدون انتصاراتٍ تُذكَر، حتى محاولة رأب الصدع مع الجانب الآخر من الناتو عبر الأطلنطي، أي أوروبا، فقد باءت بالفشل، بل أكثر من ذلك، إذ عَمَّقَ حلف "أوكوس"، بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، الشرخ الحادث في جدار الناتو.
على صعيد العلاقات مع شرق آسيا، ها هو "بايدن" يواجه تحالفًا روسيًّا صينيًّا شرسًا، يمكن أن يتسبّب في مواجهة حقيقية مع واشنطن عند نقطة زمنية بعينها، لا سيما أن مخطَّطات الناتو للاقتراب من روسيا وحدودها الغربية ماضيةٌ قدمًا، ما يجعل العالم على شفا مواجهة كبرى.
الطامّة الكبرى، التي تواجه "بايدن" في الداخل تتمثّل في غضبة جنرالات البنتاجون وأعيان المجمع الصناعي العسكري عليه بعد الانسحاب المُذلّ من أفغانستان.
هل لبايدن مستقبلٌ سياسي؟
أغلب الظنّ أن الرجل مستقبله وراءه، لا أمامه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة