عباس إلى تركيا.. زيارة العقل أم تبدل المواقف؟
في زيارة بدت مفاجئة وغير معلن عنها مسبقا، أعلن السفير الفلسطيني لدى تركيا فائد مصطفى أن الرئيس محمود عباس سيبدأ يوم غد الإثنين زيارة رسمية إلى العاصمة التركية أنقرة، تستغرق ثلاثة أيام.
الزيارة، بحسب وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا" نقلا عن السفير، تأتي تلبية لدعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث سيبحث الرئيسان العلاقات الثنائية وسبل تطويرها، إلى جانب إطلاع القيادة التركية على تطورات القضية الفلسطينية، إضافة إلى مشاورات بشأن العديد من القضايا الإقليمية والدولية.
النصوص الرسمية بشأن الزيارات وكذلك دبلوماسية الخطابات الرسمية قد تخفي دلالات سياسية مهمة بشأن مواقف القيادات والدول حول العديد من القضايا، خاصة الحساسة منها، لا سيما قضية العرب الأولى وهي القضية الفلسطينية.
عودة إلى زيارة عباس المفاجئة إلى تركيا، فهي تأتي بعد أيام قلائل من إعلان إسرائيل وتركيا، الأربعاء الماضي، عودة التطبيع الكامل للعلاقات بينهما، وعودة سفراء البلدين، إثر اتصال هاتفي بين رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
المؤشرات الأولية للزيارة، حسب متابعين، تقول إن الهدف منها هو تجديد طمأنة تركيا للفلسطينيين بأن العلاقة مع إسرائيل ليست على حساب العلاقة مع الفلسطينيين.
وهنا يأتي السؤال بشأن ما مدى الطمأنة التي تريدها القيادة الفلسطينية؟ وهي نفسها القيادة التي رفضت سابقا خطوة أكثر هدوءا وأعمق استراتيجيا قادتها دول خليجية وعربية نحو عودة العلاقات مع إسرائيل، خدمة للقضية الفلسطينية ولشعبها ولتحقيق الاستقرار بخطوات متزنة ومحسوبة.
الإشارة هنا واضحة إلى الاتفاقات الإبراهيمية التي وقعتها دولة الإمارات ومملكة البحرين مع إسرائيل والتي ستدخل عامها الثاني منتصف الشهر المقبل، والتي جنت منها القضية الفلسطينية الدعم الكامل وخطوات ملموسة نحو الحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني ليس أقلها تراجع إسرائيل عن قرار ضم أراض فلسطينية في الضفة الغربية وغور الأردن.
لكن المواقف لدى الرئيس محمود عباس وبعض الفصائل الفلسطينية قد تكون مختلفة، حين يكون الحديث عن التطبيع بين تركيا وإسرائيل، وهذا الأخير لا بد أن تباركه القيادة الفلسطينية بزيارة مفاجئة إلى تركيا!
وفيما هاجت وماجت القيادة الفلسطينية وفصائل تنتهج العنف كحل وحيد دون أي حسابات سياسية واستراتيجية، وصلت إلى حد مهاجمة وتخوين أي دولة عربية تبرم اتفاق سلام مع إسرائيل، لاذ هؤلاء بالصمت بعد إعلان تركيا وإسرائيل تطبيع العلاقات.
هذه القراءة السياسية للزيارة، حسب محللين، لا تضع تركيا موضع المتهم لأنها تبحث عن مصالحها بطبيعة الحال، لكن القارئين للمشهد قد يفسرون موقف الطرف الآخر أي الفلسطيني بالانتهازية والتناقض والمزاجية في المواقف، وتطويع الخطاب السياسي للأهواء وليس لحسابات العقل والاتزان وخدمة الشعوب دون خوف.
ربما تأخر أو أخطأ الرئيس الفلسطيني في حساباته السياسية بشأن الخطوة التي وصفها في حينها مراقبون ومسؤولون بالشجاعة والجريئة، وهي توقيع دول عربية معاهدات سلام مع إسرائيل، لم تكن أبدا على حساب القضية الفلسطينية، وإنما دعما لتحقيق أمنيات الشعب الفلسطيني والعالم العربي والإسلامي في إقامة دولة فلسطينية، انطلاقا من رؤية حول إمكانية نجاح لغة الحوار في تحقيق ما لم تحققه عقود الجفاء والمقاطعة.
الرؤية المتزنة البعيدة عن التشنج السياسي واستدرار العواطف الحماسية أثبتتها التطورات المتلاحقة، وليس أدل على ذلك من تحمل دولة الإمارات الكثير من الإساءات والافتراءات بسبب مواقفها الشجاعة والمتزنة.
وهنا يبرز تساؤل آخر.. هل تكون هرولة عباس بزيارة إلى تركيا عقب التطبيع الكامل مع إسرائيل عودة للغة العقل أم أن موقف القيادة الفلسطينية تبدل حين تعلق الأمر بتركيا؟
ولكن من زاوية أخرى هل تكون أنقرة قادرة على رسم الواقع وتوضيح المواقف وخريطة الفائدة الاستراتيجية لاتفاقيات السلام أمام الرئيس الفلسطيني، وأن تعيد تأكيد المؤكد بجدوى الاتفاقيات الإبراهيمية الجمة لصالح القضية الفلسطينية؟
ليس بدعا في السياسة أن تتغير المواقف، ولكن تظل الرؤية الواعية بعيدة النظر هي الفيصل في خدمة مصالح الشعوب بواقعية وحكمة، وهو ما بدا في تحول دولة الإمارات إلى مصدر إلهام لداعمي السلام حول العالم، فمنذ خطوتها الشجاعة بشأن توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، انضمت 3 دول عربية أخرى لركب السلام هي البحرين والسودان والمغرب.
التداول الأولي لنبأ زيارة عباس المفاجئة إلى تركيا خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة لدى المهتمين بالشأن السياسي، غلب عليه "التهكم" أو بعض الدهشة من التناقض في التعامل مع القضية الواحدة.
وفي رد فعل على نبأ الزيارة كتب الكاتب اللبناني نضال السبع في حسابه على "تويتر ": "#محمود_عباس ينوي زيارة #تركيا غدا ، من أجل شكر #أردوغان على قرار التطبيع، كما تعلمون التطبيع التركي يخدم القضية الفلسطينية"، فهل ينتقد الزيارة بكلمات ساخرة؟
بالطبع قد لا يلوم أحد تركيا في السعي وراء مصالحها من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولكن كل اللوم على من يسيء تقدير المواقف ويخطئ الحسابات مرارا، وهو الفارق بين صاحب الرؤية الاستراتيجية الواسعة ومن ينظر إلى الأمور من ثقب الباب فلا يرى كل الحقائق.
"مسار السلام طريق صعب لا يسير فيه إلا الشجعان" كما كان يقول دوما الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني هم أم القضايا لدى العرب، حتى وإن أبدت تركيا تعاطفا محمودا مع فلسطين وشعبها، وإن دعمت القيادة الفلسطينية ببعض المال.
ومن البديهي ألا ينكر أحد فضل أي دولة داعمة للفلسطينيين ولحقوقهم المشروعة، لكن هناك حسابات أخرى يجب وضعها في الاعتبار ومنها أن إسرائيل تعتقد بل تؤمن أن قرار تركيا التطبيع الكامل لعلاقاتها معها ناجم بالأساس عن رغبتها بجلب استثمارات خارجية تسهم في النمو الاقتصادي.
وترى الدوائر الإسرائيلية أنه لا يمكن الفصل ما بين هذه الخطوات وأخرى مماثلة مع عدد من الدول العربية التي اختلفت معها أنقرة، فهل وعت القيادة الفلسطينية الدرس؟ وهل أزالت عن عينها النظارة السوداء التي تحجب الرؤية الاستراتيجية لخدمة قضية العرب الأولى؟
وليس جديدا القول إن تركيا كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل في عام 1949، كما افتتحت أول بعثة دبلوماسية لتركيا في إسرائيل رسميا في 7 يناير/كانون الثاني 1950 وأول رئيس للبعثة التركية كان سيف الله إيسن، وفقا لوثائق الخارجية التركية، لكن القيادة الفلسطينية ارتبكت ربما أو تغافلت أحيانا عن الحقائق لكسب تأييد ما، أو ربما بسبب سوء التقدير.
الزيارة ليست بعيدة وربما ما ستفصح عنه تلك الزيارة سيعيد رسم أمور كثيرة، وقد توجب تصحيح الرؤية، بل ربما الاعتذار ولكن لمن؟