"رحلتي الفكرية" للمسيري.. سيرة مؤرخ الموسوعة اليهودية
![](https://cdn.al-ain.com/lg/images/2017/2/24/70-173721--_158b03711900b1_700x400.jpeg)
يروي المفكر الراحل قصة حياته، أو رحلته الفكرية كمثقف عربي مصري، وليست قصة حياته الخاصة، سيرة ترصد تحولاته الفردية في الفكر والمنهج
في العام 2000، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة (إصدارات خاصة)، السيرة الذاتية للكاتب والمفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري بعنوان "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر ـ سيرة غير ذاتية غير موضوعية"، المسيري الذي اشتهر بعمله الموسوعي الضخم موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية ـ نموذج تفسيري جديد" والتي استغرق في إنجازها قرابة الربع قرن من جمع المادة والإشراف على فريق ضخم من الباحثين، ثم صدرت بعد ذلك في ثماني مجلدات ضخمة عن دار الشروق، وصدر موجز لها في مجلدين كبيرين.
وفي 2005 صدرت طبعة أخرى منقحة ومزيدة (بضعف عدد صفحات الطبعة الأولى تقريبا)، ويمكن عدّها الطبعة الأولى بالمعنى الفعلي عن دار الشروق، مزودة بملحق للصور الشخصية. توفي عبد الوهاب المسيري في الثاني من يوليو عام 2008، وترك وراءه مكتبة حافلة بالمؤلفات والكتب القيمة، خاصة مشروعه الكبير في دراسة المشروع الصهيوني وتفكيك مقولاته ومواجهة أكاذيبه. من بين هذا المنجم الضخم الفخم الكبير، تستقر سيرته الذاتية العامرة في مكانة متفردة، خاصة بعدما لاقته من ذيوع وانتشار ورواج كبير؛ إذ صدر منها خمس طبعات متتالية خلال الفترة من 2000 وحتى وفاة المسيري.
وها هي دار الشروق تعيد إصدار الطبعة السابعة من هذا المجلد القيّم (تقع في 728 صفحة من القطع الكبير)، بالإضافة إلى ملحق للصور بالألوان في حوالي 34 صفحة أخرى. عن هذه السيرة المفصلة التي استغرقت تفاصيل ووقائع وحياة المفكر وأستاذ الأدب الإنجليزي منذ ميلاده وحتى ما قبل وفاته بعدة سنوات، يقول صاحبها:
"حينما لاحت مشارف ما تصورت أنه اكتمال أهم أعمالي، وجدت أنه قد يكون من المفيد أن أضع بين أيدي القراء، وبخاصة الشباب، بعض خبراتي الفكرية والمنهجية. وبالفعل، كتبت بضع صفحات عن حياتي وأفكاري كنت أنوي ضمّها إلى الموسوعة. ولكن اتسع نطاق التأمل وزاد حجم الصفحات وترابطت الأفكار (الثمر) بجذورها (حياتي الثقافية بأسرها) وببذورها (تكويني في دمنهور)، بحيث وجدت أنها تشمل كل حياتي الفكرية. وهذا ليس بغريب؛ لأن الموسوعة، بمعنى من المعاني، هي نتاج حياتي كلها. فانفصلت التأملات والكلمات عن الموسوعة حتى أصبحت عملاً مستقلّا يحمل ولا شك بصمات ماضيه، ولكنه مع هذا يتجاوزه في نفس الوقت. وكانت النتيجة هي هذه الصفحات: "رحلتي الفكرية - في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية، غير موضوعية".
وعلى مدار الصفحات التي تقترب من الـ 800 صفحة، يروي المسيري قصة حياته أو رحلته الفكرية كمثقف عربي مصري، وليست قصة حياته الخاصة "زوجًا وأبًا وابنًا وصديقًا وعدوًّا". سيرة ترصد تحولاته الفردية في الفكر والمنهج ولكنها تؤرّخ، في الوقت نفسه، لجيله (الستينيات)، أو لقطاع منه؛ فتحولاته ليست بأي حال منبتّة الصلة بما كان يحدث حوله. كما أن الجزء الثاني من هذه السيرة، في المجلد ذاته، هو محاولة لعرض أفكاره الأساسية كما تتمثل في معظم أعماله التي أنجزها، بطريقة قال عنها "أعتقد أنها مبسطة، كما أنها تبين كيف تشكلت هذه الأفكار ومدى ترابطها وبعض تطبيقاتها".
بهذا المعنى، كتب المسيري سيرته الذاتية في حدود فهمه الخاص لكثير من أحداث حياته الشخصية (الذاتية) من خلال نفس الموضوعات الأساسية والمقولات التحليلية التي استخدمها في مجمل دراساته وأبحاثه (الموضوعية)، وليس العكس. ولعل هذا ما دعاه إلى استبعاد بعض تفاصيل حياته الخاصة، وهي تفاصيل قد تكون مهمة من منظور شخصي، "وقد تهم أعضاء أسرتي وأصدقائي، ولكنها لا تهم قارئ هذه الصفحات".
لكل هذا، ابتعد المسيري عن السرد المباشر لأحداث حياته المتعاقبة ومراحلها المتتالية، وحاول بدلا من ذلك أن يعرض لها من خلال بعض الأنماط والقضايا والمقولات التحليلية والموضوعات الفكرية المتواترة في كتاباته وحياته، دون التقيد بمرحلة زمنية محددة. وبما يمكن اعتباره رحلة فكرية يتم سردها من خلال موضوعات (نماذج)، لا من خلال مراحل متتابعة.
يقول المسيري "ولكن هذه الرحلة الفكرية، مع هذا، هي رحلتي أنا. فأنا الذي عشت ما عشت من تجارب، وطرحت ما طرحت من أسئلة، وأدركت ما أدركت من أفراح وأتراح، واستوعبت ما استوعبت من دروس ومفاهيم! أنا الذي تفاعلت مع ما حولي من تجارب منذ أن وُلدت في دمنهور ونشأت فيها، إلى أن انتقلت إلى الإسكندرية، ومنها إلى نيويورك، ثم أخيرًا إلى القاهرة حيث استقر بي المقام. وهي رحلة إنسان فرد له خصوصيته وذاتيته، ولذا فالإشارة إلى الأحداث التاريخية العامة التي حدثت في حياتي (مثل ثورة 1952) هي إشارة سريعة مقتضبة، فهذا جزء من تاريخ مصر العام. بل إن الصراع العربي الإسرائيلي، هذا الحدث المهم في حياتنا جميعًا، يظهر في هذه الرحلة في طيِّ حديثي عن رؤيتي له وعن التحولات التي خضتها في أثناء كتابتي الموسوعة".
في هذه الرحلة الفكرية، وبمعنى من المعاني، تتبدّى محاولة المسيري المتأملة التحليلية لتكشف القلق الشخصي الذي تحول إلى قلق فكري، أدى بدوره لبلورة مجموعة من الأسئلة. وفي الوقت ذاته، هي كذلك دراسة لوقائع حياته وأحداثها، وتجاربه الشخصية، وقراءاته المتنوعة، والمواجهات الفكرية التي خاضها. وهي أخيرًا قصة بحثه كمثقف عربي عن أداة بحثية جديدة تتفق ورؤيته وإدراكَه وتُيسِّر عليه تحليل النصوص والظواهر التي يتعرض لها بالبحث والتحليل، كما تُيسِّر له توصيل فكره لقرائه.
تنقسم هذه السيرة الضخمة إلى جزئين متكاملين؛ الجزء الأول منها يتناول الأحداث التي أدت إلى تكوين الأفكار والنماذج، بينما يشمل الجزء الثاني في معظمه الأفكار والنماذج التي تكونت، بل إنه يمكن رؤية حقب زمنية فيه، فالجزء الأول يسمَّيه المسيري "التكوين"؛ أي جذور التكوين الفكري لصاحب الرحلة.
ويتناول الفصل الأول "البذور الأولى"، وهو أساسًا عن حياته في دمنهور خلال طفولته وصباه وجزءٍ من شبابه. أما الفصل الثاني، "بدايات الهُوية"، فيتناول تلك الأحداث في حياته التي أصبح من خلالها واعيًّا بذاته. ويغطي الفصل الثالث، "في الولايات المتحدة"، فترة الشباب المتأخر. ويؤرخ الفصل الرابع، "من بساطة المادية إلى رحابة الإنسانية"، لعملية انتقاله من المادية إلى عالم قال عنه إنه "أرحب".
وخصص المسيري الجزء الثاني لعالم الفكر، أو "الثمر"، يبدأ الفصل الأول، "النماذج الإدراكية والتحليلية"، بعرض بعض التحولات المنهجية التي واكبت تحولاته الفكرية، كما يتناول الفصل الثانى بعض الكتابات الأولى. أما الفصل الثالث، "الصهيونية"، فيتناول إشكالية الصهيونية وعلاقته بها، وجوانب حياته الفكرية. أما الفصلان الرابع والخامس، فيتناولان أهم أعماله على الإطلاق، وهو الموسوعة اليهودية: تاريخها وموضوعاتها الأساسية. واختتم بالفصل الخامس والأخير "خارج عالم السياسة" الذي عالج فيه كتاباته التي لا علاقة مباشرة لها بالصهيونية.