التنظيمات المتطرفة، بعد أن استنفدت أغراضها السياسية والمخابراتية، أصبحت مُحارَبة ومنبوذة في كل مكان
في نيويورك، قُبَيْل انعقاد الدورة الثانية والسبعين للأمم المتحدة، ألقى الشيخ عبدالرحمن السديس، إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة، خطاباً دينياً لافتاً أمام جمع من ممثلي الأديان في المدينة التي تصهر كل الأعراق، وتتيح فرصاً جيدة للمصافحات التي تكاد تكون مستحيلة في أماكن أخرى من العالم.
بعد الخطاب انتفض تويتر بهاشتاغ عنوانه “السديس لا يمثلني” حمل بغلظة على الشيخ وعلى خطابه؛ ووصل الأمر ببعض التغريدات إلى حد اتهامه في عقيدته وأمانته العلمية والدينية، فلماذا حدث ذلك؟ وما الذي استفزّ البعض ليُخرجوا مطارقهم وينهالوا على الخطاب بهذه الصورة؟
بقدر ما كان مفاجئاً أن يتعرض الشيخ السديس، رغم شعبيته الجارفة لهذا الهجوم لأنه دعا إلى الحوار والتسامح في مؤتمر في أميركا، هناك قطعاً ما يفسّر هذا التصرف ويعيده إلى نطاقه الصحيح. والتفسير هو أن هناك مكوِّنات شعبية، عربية وإسلامية، تكوّن لديها هذا العقل الجمعي التراكمي الداعشي
الرجل كان يتحدث في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي عن العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي. وفي مكان مثل نيويورك، ومناسبة مثل هذه؛ من الطبيعي أن يتحدث إمام حرم المسلمين عن التسامح والمحبة والالتقاء بين الشعوب، إذ لا يمكن أن يُنتظر منه خطاب غير هذا، سوى ما قد يتخيّله العقل الجمعي الداعشي الذي يغرز مخالبه الآن في كثير، إن لم أقل كل المجتمعات العربية، ولدى الكثير من المكوّنات الشعبية العربية والإسلامية في الدول الغربية. هذا العقل، بالمناسبة، لم يتشكّل أو يتبلور بظهور داعش، وإنما أصبح داعش، ببلوغه حدوداً قصوى من كره الآخر وممارسة العنف بكل أشكاله ضده، رمزاً لهذا العقل أو هذا الفكر الجمعي.
تشكُّل هذا العقل الجمعي الداعشي كانت له مقدمات مبكرة وكبرى في الدول العربية والإسلامية على مدى العقود الماضية، حين نشأت جماعات متطرفة قامت على أساس تكفير الآخر وتجهيل المجتمع الذي لا يتطابق أفراده مع منطلقاتها ولا يستن بسننها ويخضع لتعاليم قادتها. وقد أباحت هذه الجماعات، كما في مصر في أكثر من مرحلة منذ الثمانينيات من القرن العشرين، قتل الناس ونهبهم وحرق ممتلكاتهم، بل وسوّغت بعض الفتاوى سبي نسائهم وفرض الجزية عليهم إن كانوا غير مسلمين في بلاد إسلامية.
في مرحلة تالية أو موازية لمراحل التكفير والتجهيل، سُمِّي المتطرفون مجاهدين وسُمِح لهم، لأغراض سياسية وعسكرية، أن يقاتلوا على قاعدة من مبادئهم المتطرفة، في حروب ضد “الكفار” في بقاع كثيرة من العالم، ما جعلهم بعد انتهاء هذه الحروب، يتصورون أنهم أصبحوا قادرين على تطبيق أفكارهم وعلى خلق مجتمعات تنصاع لهم بقوة السلاح، تُطبَّق فيها شريعة التطرف النافية للشريعة الوسطية التي تطبّقها الأنظمة السياسية القائمة، والتي اتفق المسلمون على مبادئها وقيمها الأخلاقية والإنسانية.
وما حدث هو أن هذه الجماعات وهذه التنظيمات المتطرفة، بعد أن استنفدت أغراضها السياسية والمخابراتية، أصبحت مُحارَبة ومنبوذة في كل مكان حتى في المجتمعات المحلية التي نشأت في رحمها والتي، تحت وطأة التخلف والإحساس بالهوان على المستوى الأممي، أيّدت توجهاتها ومنطلقاتها خاصة في أغراض الجهاد وتطبيق شرع الله على طريقتها. لكن هذا حصل بعد أن تنامت قدرتها على المقاومة والتأثير، الأمر الذي مكّنها عبر كل تلك المراحل، من تكوين عقل جمعي فئوي يحارب كل خطاب أو مبدأ متسامح مع المختلفين من المسلمين، ومع الآخرين من غير المسلمين.
لذلك، بقدر ما كان مفاجئاً أن يتعرض الشيخ السديس، رغم شعبيته الجارفة، لهذا الهجوم لأنه دعا إلى الحوار والتسامح في مؤتمر في أميركا، هناك قطعاً ما يفسّر هذا التصرف ويعيده إلى نطاقه الصحيح. والتفسير هو أن هناك مكوّنات شعبية عربية وإسلامية تكوّن لديها هذا العقل الجمعي التراكمي الداعشي، الذي لا يمكن أن يقبل التعايش على المحبة والسلام بين الناس. وقد استقر في أعماق هذا العقل أن وجود الآخر المختلف، سواء أكان محلياً وطنياً أو خارجياً، هو تهديد مباشر له ولأفكاره ومنطلقاته التي ترى الآخر بشكل مغاير تماماً باعتباره عدوّاً يجب شتمه وإلغاؤه بل وقتله.
هذا الفكر سيظلّ موجوداً إلى حين، إذ لا يمكن شطبه بقرار رسمي أو برغبة شعبية كما هو حاصل الآن، بل يتطلب عملاً دؤوباً وجاداً لتخليص الناس من شوائبه الجاثمة على عقول البعض. ولكوني ما زلت أؤمن بالعمل العربي المشترك وأهميته، فإن الدول العربية قاطبة تتحمل مسؤولية تنقية مجتمعاتها وشعوبها من أدران هذا الفكر. وهي تستطيع ذلك إذا لملمت شتات جهودها في محاربة التطرف، واتحدت على ضرورة تجديد الخطاب الديني وتطوير المناهج التعليمية، لا سيما في الصفوف الأولية، بانتهاج وسطية حضارية ومدنية تُغلّب صناعة الحياة على صناعة الموت وتنتصر للمحبة والسلام وتبادل المنافع بين الناس.
نقلا عن "العرب اللندنية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة