لا يزال الأثر الطيّب الذي خلفته وثيقة "الأخوّة الإنسانية" التي خرجت على العالم من دولة الإمارات في فبراير 2019 يؤتي أُكُله.
ذلك أن الوثيقة تتفاعل في عقل البابا فرنسيس والإمام الأكبر الشيخ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وكلٌّ منهما يسعى جاهدًا لترجمتها على الأرض في مزيد من الأفعال، حتى لا تتوقف عند دائرة التنظير الفكريّ وحسب.
في 3 أكتوبر/تشرين الأول، وعشية عيد المتصوف الإيطالي الكبير والشهير فرنسيس الأسيزي، الرجل الذي وقف في وجه دعوات الحروب بين الشرق والغرب قبل ثمانمائة عام، أعطى البابا فرنسيس رسالته البابوية العامة، والتي حملت عنوان Fratelli tutti "كلنا إخوة"، والتي هي قراءة روحية واجتماعية عميقة في شأن الأخوّة والصداقة الاجتماعية.
كان أمل فرنسيس من خلال تلك الرسالة، وفي هذا العصر المليء بالعقبات الإنسانية، هو الاعتراف بكرامة الإنسان، كل إنسان، وتجديد رغبة عالمية في الأخوّة بين الجميع.
يعني تعبير "بين الجميع" لفرنسيس سرًّا جميلاً، وهو أن نحلم وأن نجعل حياتنا مغامرة جميلة، إذ لا يمكن لأحد أن يواجه الحياة بطريقة منعزلة.
وعند الرجل ذي الثوب الأبيض أننا بحاجة إلى جماعة تساندنا وتساعدنا، وفيها نساعد بعضنا للتطلّع إلى الأمام.. كم هو مهمّ أن نحلم معا!
فرنسيس بابا حالم بعودة الإنسانية إلى جذورها من جديد، ولهذا يصرّح على الدوام بأنّ: الأحلام نبنيها معًا، ويطلق دعوة في مقدمة رسالته يقول فيها: تعالوا نحلم باعتبار انتمائنا إلى إنسانيّة واحدة، وباعتبارنا عابري سبيل خُلِقنا من اللحم البشري نفسه، وأبناء لهذه الأرض نفسها التي تؤوينا جميعًا، وكلٌّ منّا يحمل غِنى إيمانه وقناعاته، وكلٌّ منّا بصوته الخاصّ، حلم الأخوّة الواحدة الذي يظلّلنا جميعًا كإخوة.
على مشارف عيد الميلاد المجيد هذا العام، وفي عمر الخامسة والثمانين، لا يزال فرنسيس يحلم بتجديد الأرض، وبتحويل وثيقة الأخوّة الإنسانية إلى حاضر قويّ مَعيش وإلى فعل محبّة وتضامن مع الآخر، ودون مشروطيّات تاريخيّة أو عقديّة، إنه رجل يُنهي عصور التكلّس اللاهوتي، ويفتح الأبواب واسعة لإكمال ما مضى فيه أسلافه الكبار منذ زمن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني "1962-1965" حتى الساعة.
في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري كان فرنسيس يعلن عن إنشاء مؤسسة "كلنا إخوة"، والتي تأخذ في اعتبارها الاستثمار في النموّ الثقافي والروحي من خلال الأحداث والخبرات والمسارات والرياضات الروحية، وذلك من أجل تعزيز مبادئ الرسالة العامّة حول الأخوّة والصداقة الاجتماعية المشار إليها سلفًا.
توجّهات البابا فرنسيس تستدعي شيئًا من التأمل العميق، لا سيّما أن بالحسابات العقلانية فإن مستقبل فرنسيس يبدو وراءه لا أمامه، عمريًّا على الأقل، وهذه حسابات الطبيعة ومشيئة الرحمن، ومع ذلك لا يكلّ الرجل من أن يجدّد وأن يأمل ويحلم بأن يترك وراءه إرثًا نافعًا وشافعًا للأجيال الجديدة، وحتى لا تضحي جهوده التي غيّرت الكثير من مسارات ومساقات الفكر داخل المؤسسة الرومانية الكاثوليكية، مجرد حملات دعاية عامة لا أكثر.
ولعل اهتمام البابا فرنسيس بهذه المؤسّسة يتبدّى من خلال اختيار الكاردينال ماورو غامبيتي، نائب البابا على مدينة الفاتيكان ورئيس هيئة Fabrica di san Pietro، والتي تقوم على إدارة جميع الأعمال اللازمة للحفاظ على بازيليك القديس بطرس، قلب حاضرة الفاتيكان الشهير، تلك المؤسسة التي تريد دَعْم رسالة الأخوة التي يرعاها البابا فرنسيس نفسه بكلّ ما أوتِيَ من جهد وقوة.
المؤسسة الجديدة، التي وَقَّعَ فرنسيس قرار إنشائها، تتمحور حول ثلاث كلمات أساسيّة: الحوار واللقاء والمشاركة.
وفي النظام الأساسي للمؤسسة، في المادة الثالثة تحديدًا، يتمّ تحديد أهدافها، والتي يمكن بلورتها في:
"السعي من أجل التضامن بين بني البشر، وإنشاء الأجيال الجديدة على مثل هذه المفاهيم الاتفاقيّة لا الافتراقيّة، وأن يكون للفنّ دور تقدميّ في هذه المؤسسة، لا سيما أن الفنّ السامي الهادف يكاد يقترب من التقديس، وقادر على جَمْع البشر في بوتقة انصهار للمودّات معًا.
مؤسسة فرنسيس الجديدة تعزّز التنشئة الكاملة والشاملة، وتتنبّه جيّدًا للعَثَرات التي تملؤ العوالم العلمانية الجافة، وفي الوقت نفسه تعمل جاهدة على طرد روح المتطرّفين، إذ تراعي في أعمالها وفعاليّاتها كافة المستوى الروحيَّ والثقافيَّ والبُعدَ الاجتماعي، والتزام الأعمال الخدميّة التي يحتاج إليها العالم لتغيير أحواله إلى الأفضل أبدًا.
المؤسسة الجديدة لن يتوقف عملها عند الغُرف والقاعات المكيّفة، حيث اللقاءات والاجتماعات تدور بين رجالات النخبة والمثقّفين من رجال الدين أو المدنيين العلمانيين، بل ستمضي إلى الطرقات لمقابلة البشر وفتح آفاق اللقاء بطرق غير تقليدية، فعلى سبيل المثال ستساعد هذه المؤسسة السياح الذين يمرّون في البازيليك الفاتيكانية وفي الأماكن المحيطة بها لكي يعيشوا خبرة حجّ من خلال مسارات روحية وثقافية وفنية.
ولهذه الغاية سيتمّ تنظيم مسارات وأحداث وخبرات تهدف دائمًا إلى تعزيز "الأخوّة والصداقة الاجتماعية بين الكنائس والأديان المختلفة وبين المؤمنين وغير المؤمنين".
ولعلّ الجانب الآخر من أهداف هذه المؤسسة يتجلّى في قيمة سامية أخرى، إذ تسعى ضمن فعاليّاتها إلى تعزيز "ثقافة السلام" في مختلف مجالات الحياة، من البعد الشخصيّ إلى البعد الاجتماعي والسياسي، فضلاً عن تنظيم لقاءات جديدة يغذّيها الحوار الاجتماعي والحِسّ بالتسامح الاجتماعي أيضًا.
من بين الأهداف التي تمثّل قيمًا عالية وغالية القيمة، مسألة تنقية الذاكرة التي تسعى المؤسسة في طريقها، وذلك عبر تعزيز العدالة التعويضيّة كبديل للانتقام الاجتماعيّ.
هناك كذلك العديد من المبادرات المخطَّط لها، والتي تهدف إلى تشجيع "تنمية الأنسنة الأخويّة"، من خلال تعزيز مبادئ الحرية والمساواة والأخوّة، وهي الشروط اللازم توافرها من أجل بناء "محبّة عالميّة" تعترف بكرامة الأشخاص وتحميها.
لا ينسى فرنسيس في مؤسَّسته الجديدة قضيته الرئيسة منذ أن اعتلى كرسيّ القديس بطرس، القضية الإيكولوجية، أي البيئة وتغيّراتها وتطوّراتها، والتي باتت مهدِّدًا أساسيًّا لحياة البشر في حاضرات أيامنا.
من هذا المنطلق، ستقوم المؤسسة الجديدة على تشجيع المشاريع الخاصة بالعناية بالخليقة وحماية الموارد البيئيّة للتضامن الدولي.
تبدو مؤسسة فرنسيس الجديدة عاقدة العزم على ترك بصمة إيجابية خلّاقة في طريق الحوار والجوار، إذ ستعمل أيضًا على تعزيز روح المبادرة المسؤولة والاستثمارات الاجتماعية وأشكال العمل البشريّ المستدام.
ولن تهمل كذلك الإيكولوجيا المتكاملة والتنمية المستدامة والانتقال البيئيّ والصحة، ما يعني النيّة الكاملة لبناء مجتمع أخويّ معاصر.
أمّا الجديد في هذا العمل فهو نيّة المؤسسة دعم ما تمّ تعريفه بـ"الإعلام المسؤول"، ذاك الذي يتميز بمصادره الصادقة والموثوقة.
مؤسّسة "كلّنا إخوة" خطوة جديدة في طريق السعي لمولد إنسانية متصالحة ومتسامحة مع بعضها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة