بعد عقود من الصراع، يتبادل المسؤولون الأتراك والأرمن التصريحات الإيجابية هذه الأيام.
وتتخذ كل من تركيا وأرمينيا خطواتٍ لتطبيع العلاقات بينهما، وسط آمالهما في الانتقال إلى مرحلة جديدة على أساس المصلحة المشتركة.
فما الدوافع التي تقف وراء هذا المُناخ الجديد في العلاقات بين البلدين؟ وهل فعلا بات الطريق ممهدا لمصالحة تاريخية بينهما؟ وماذا عن مواقف الأطراف المعنية، لا سيما روسيا وأذربيجان وإيران والولايات المتحدة؟
في الواقع، لا يمكن النظر إلى التطورات الجارية في موقفَي تركيا وأرمينيا بعيدا عن نتائج الحرب الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان، تلك الحرب التي انتهت بهزيمة قاسية لأرمينيا، وهي هزيمة عمّقت جروح رئيس الوزراء الأرمني، نيكول باشينيان، رغم أنه فاز في الانتخابات الأخيرة، لكن الثابت أن نتائج هذه الحرب رسّخت قناعة لدى الأرمن مفادها استحالة تحقيق أي انتصار عسكري على أذربيجان في الصراع التاريخي الجاري على إقليم "ناجورني قرباغ" في ظل الدعم التركي الكبير لأذربيجان.
وعليه، تعتقد أرمينيا أن الحوار الإيجابي مع كل من تركيا وأذربيجان قد يحمل لها مرحلة جديدة، فرئيس أرمينيا هنا ينطلق من عوامل أساسية، في المقدمة منها الاقتصاد، إذ يرى أن عودة العلاقات الجيدة مع تركيا وفتح الحدود المغلقة معها قد ينقل اقتصاد بلاده الضعيف إلى مرحلة جديدة تنشط فيها التجارة والصناعة والزراعة، على أمل التخفيف من المعاناة المعيشية لنحو ثلاثة ملايين أرمني في الداخل يعانون ظروفا اقتصادية سيئة، فضلا عن العامل السياسي، وهو عامل مزدوج، الأول له علاقة برغبة "باشينيان" في تطوير العلاقة مع أوروبا عبر البوابة التركية، والثاني على شكل إرسال رسالة انتقامية للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بسبب موقفه من حكم "باشينيان"، واعتقاد الأخير بأن "بوتين" لم يقف مع بلاده في الحرب الأخيرة مع أذربيجان، رغم وجود معاهدة دفاع مشترك بين البلدين.
في المقابل، ترى تركيا أن فوائد التطبيع مع أرمينيا هائلة، لعل أهمها:
1-دفع الأرمن إلى التخلي عن قضية ما عُرف بـ"الإبادة الأرمنية"، وقد شكّلت هذه القضية نقطة توتر دائمة في العلاقات بين تركيا وأرمينيا، بل بين تركيا وعشرات الدول.
2-دفع الخطط التركية الاقتصادية والتجارية في القوقاز وآسيا الوسطى إلى حيز التنفيذ، لا سيما تنفيذ ممر "زنغازور" المعروف بـ"الممر التركي"، وهو عبارة عن ممر تجاري يربط بين تركيا وأذربيجان عبر الأراضي الأرمنية، ويصل إلى تركمانستان، حيث جمهوريات آسيا الوسطى من أصول تركية. ويُعطي هذا المشروع ميزاتٍ قومية وتجارية كبيرة لتركيا على حساب إيران، التي كانت تجني ملايين الدولارات من عبور الشاحنات التركية إلى أذربيجان عبر الأراضي الإيرانية، فالممر الجديد سيؤدي إلى استغناء تركيا عن الممرات الإيرانية، وفي هذا السياق ينبغي النظر إلى الحساسيات الإيرانية الأخيرة مع كل من أذربيجان وتركيا.
3-أن تركيا تطمح إلى إقامة محور قوي بقيادتها في القوقاز، يتألف -إضافة إليها- من أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، وهو محور يتكامل مع العلاقة التركية القوية بأوكرانيا، وبالسعي التركي إلى التقرب من أفغانستان في عهد "طالبان"، ومن شأن هذه الحركة الجيوسياسية زيادة نفوذ تركيا وتحسين أوراقها في مواجهة الدورين الروسي والإيراني في القوقاز، خاصة أن تركيا انزعجت من استبعاد روسيا لها من قوة حماية السلام بين أذربيجان وأرمينيا.
4-تدرك تركيا أن قضية التطبيع بينها وبين أرمينيا تحظى بدعم أمريكي، وقيل إن الرئيس الأمريكي "بايدن" خلال لقائه الأخير في روما مع الرئيس التركي شجّع الأخير على الانفتاح على أرمينيا من خلال حوار مباشر معها، وهو ما يعني "الاستغناء عن دور موسكو"، التي كانت على الدوام تدخل على خط الوساطات كلما توترت العلاقات بين أرمينيا وبين كل من تركيا وأذربيجان.
ثمة من يرى أن هذه الدوافع المشتركة للطرفين كفيلة بنقل العلاقات التركية-الأرمنية إلى مرحلة جديدة، مرحلة الحوار والتعاون بدلا من الصدام، وما تعيين كل طرف ممثلا له لدى الطرف الآخر مؤخرا وفتح أرمينيا أجواءها أمام الطائرات التركية، وإفراج أذربيجان عن عشرات جنود الأرمن، الذين تم أسرهم خلال الحرب الأخيرة بينهما، إلا مقدمات حقيقية لزرع الثقة بينهما، خاصة أن حسابات الأطراف المعنية تتلاقى مع الحسابات الأمريكية والأوروبية، في ظل الحديث عن إمكانية العودة إلى اتفاق زيوريخ عام 2009 للمصالحة بين أرمينيا وتركيا.
والسؤال هنا: هل سنجد "باشينيان" في أنقرة قريبا للإعلان عن فتح صفحة جديدة بين البلدين؟ والسؤال الأهم: هل ستقف روسيا متفرجة إزاء ما يجري في منطقة حيوية تُعدُّها حديقة خلفية لها؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة