تواجه بيئة النظام الدولي في الفترة المقبلة مرحلة من عدم الاستقرار والتعثر واستمرار حالة الضبابية في ظل أجواء صراع الكبار.
يأتي ذلك وسط محاولات واشنطن تقسيم العالم إلى وحدات نفوذ وتأثير ومناطق تابعة، على غرار ما جرى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مع تبدُّل القوى الفرعية التي يمكن أن تعبّر عن نفسها، ما يشير إلى أننا أمام واقع مستجد في العام الجديد.
دوليا، ستظل الإدارة الأمريكية تستجدي حوارا من إيران في ظل مراوغة حقيقية من طهران لعدم الوصول إلى الحد الأدنى من الاتفاق حول ملفها النووي، في ظل عدم وجود توافقات كاملة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وتشرذم مواقف كل الأطراف، وبعد دخول روسيا على الخط، فمن المتوقع أن تخسر الإدارة الأمريكية مصداقيتها حال استمرار مفاوضات مفتوحة لا سقف لها من حيث الهدف أو الخلاصة، وهو ما سيؤدي لدخول إسرائيل على الخط أيضا، حيث تُعد العُدّة للدخول في مواجهة تدريجية مع إيران، في ظل استعدادات إسرائيلية غير مسبوقة واتباع أساليب الخداع الاستراتيجي، حيث ستقرر إسرائيل خيارها في المواجهة دون استماع للجانب الأمريكي، مثلما فعلت عندما ضربت المفاعل العراقي عام 1981.
من ثم فإن المشهد الراهن أمريكيا وإيرانيا مرشحٌ لمزيد من التصعيد، وسوف يتأثر الإقليم بأكمله من جراء ما يمكن أن تقوم به إيران ردًّا على إسرائيل، إذ ربما تستخدم أدواتها الفرعية لتقرر الخطوات التالية.
على جانب آخر، ستكون الأوضاع الصحية في العالم مدعاةً لمزيد من الصراع الدولي الكبير، خاصة أن القضية ليست في أزمة كورونا وتوابعها، وإنما في الخطوات التالية لمتحوّرات جديدة ستفرض وجودها وستتطلب دعما وتنسيقا كبيرا بين الدول الكبرى، وهو أمر غائب حتى الآن في ظل رفض هذه الدول أن تتبع نموذج الشفافية والصراحة، حيث لم تُقدِم الإدارة الأمريكية على نشر توصيات اللجنة الفيدرالية، التي شكّلها الرئيس الأمريكي جو بايدن لمعرفة ما الذي جرى في الصين إبان كورونا، وفضّلت الإدارة الأمريكية التكتُّم على التفاصيل، خاصة مع إقدام ضباط المخابرات المركزية على عدم الحصول على المصل الأمريكي، فيما أقدمت الصين على تقديم الأمصال واللقاحات لدول العالم، ومن ثمّ يبدو أن العالم مقبلٌ على ما يشبه الحرب مجهولة المصدر، فضلا عن قوى غير واضح أطرافها.
سيكون الإنسان هو المستهدف، وهو ما يجب الانتباه إليه من أن المواجهة ستستمر، وستدخل منعطفات عديدة في إطار الحرب الجديدة، والتي ستعمل عن قرب مع حروب الجيل الخامس، التي بدأت تعلن عن نفسها، متجاوزة الحروب التقليدية.
وفي ظل ما يجري دوليا ستظل الصراعات السياسية والاستراتيجية قائمة، حيث سيكون الصراع ثنائيا وممتدا إلى أطراف ثلاثية، وربما أكثر، وهو ما يجري في أزمة منطقة البلقان وأوكرانيا والقرم، إضافة إلى منطقة الصين، حيث أزمة تايوان، وهو ما يؤكد أن الصراع الأمريكي الروسي الصيني سينتقل من أزمات سياسية على غرار أزمات تاريخية مثل تايوان أو أوكرانيا، إلى أزمات معاصرة مجددا ستُستخدم فيها كل وسائل المواجهة الحقيقية، بدءا من الخيار العسكري، مرورا بصراعات منضبطة ومحددة، ولكنها تتم في إطار من المصالح الكبرى والارتباطات الهيكلية التي ستدفع لتحديد مسار الصراعات الحالية، خاصة مع النهج التصعيدي، الذي تتبعه إدارة "بايدن"، وتعمل عليه في إطار تطويق الصين وتحجيم نفوذها وعدم السماح لها بتحقيق مكاسب في هذه المواجهة.
كل هذا غير واقعي، وسيؤدي إلى نتائج كارثية حال ردّت الصين، إذ ستكون التكلفة عالية، وهو ما سينطبق أيضا على الجانب الروسي، الذي سيظل يعمل على حسابات محددة بصرف النظر عن استمرار منظومة العقوبات المفروضة عليه، وسيعمل على تأكيد امتلاكه أدوات التأثير والحركة دوليا وإقليميا، وهو ما سيؤدي لمزيد من التصعيد المبرر، وسيتضح في الفترة المقبلة من خلال تلويحه بتوظيف كل ما لديه من حضور استراتيجي في البلقان وجنوب شرق آسيا ومناطق التماس التي يتحرك من خلالها.
الرسالة المهمة أن الصراع الأمريكي الصيني، والصراع الأمريكي الروسي، ستتداخل فيهما كثير من الأطراف التي ما تزال تتكشف مواقفها -رغم تحالفاتها الكبرى والمفصلية مع الولايات المتحدة وروسيا والصين- وسيكون لها دور ضابط لنمط التحرك السياسي والاستراتيجي في الفترة المقبلة. وهو ما سينطبق على مواقف اليابان وكوريا الشمالية وتركيا والهند وأستراليا كمثال.
وتدرك القوى الكبرى المعنية أن الصراع الدائر لن يكون على حالته الراهنة، بل سيمتد وسيزيد من تعقيداته الكبرى تشابكُ القضايا وتداخل المواجهات المحتملة، وهو ما يرتبط أيضا بدور قوى إقليمية تسعى إلى أن يكون لها دور رئيسي في إدارة المشهد السياسي والاستراتيجي في الفترة المقبلة. الأمر الذي سيكشف ويعمّق حالة التأزم الدولي، التي ستشهد مزيدا من الصراعات، وربما أيضا صداماتٍ متتالية.
إقليميا، ستستمر الأزمات العربية تُراوح مواقعها، حيث لا توجد أي مؤشرات حقيقية لاستئناف مساعي السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في ظل بقاء الحكومة الإسرائيلية الراهنة بائتلافها المُشكَّل من أحزابها الثمانية، وإن كانت إسرائيل ستقبل مزيدا من التسهيلات الاقتصادية في قطاع غزة، والتي طرحها وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، "الاقتصاد مقابل الأمن"، وهي المعادلة التي كررها من قبل شيمون بيريز، وقبِل بها في توقيت معين رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، عندما اصطدم بالمواجهة مع قطاع غزة.
وبالتالي لن تكون هناك أي تسويات حقيقية وسيستمر الصراع غير المباشر قائما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما قد يدخل القطاع في مواجهة جديدة مع إسرائيل حال تعثر مشروع إعمار غزة، أو رفض دخول مواد البناء والفشل في إتمام صفقة تبادل الأسرى، أو العمل على خيارات رد الفعل، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى مزيد من المواجهات.
ستنجح إسرائيل في اكتساب حضورها السياسي والدبلوماسي في الشرق الأوسط، وستعمل على تنفيذ مزيد من اتفاقيات السلام، خاصة أن مخططها يمضي بصورة مرحلية تسري بطريقة جيدة، كما ستطرح نفسها كطرف في التسويات العاجلة في الإقليم.
ستعود سوريا لموقعها في الجامعة العربية، فيما ستبقى الأزمة الليبية كما هي مع انفتاح المشهد الليبي على سيناريوهات عدة، وذلك بعد الفشل في إجراء الانتخابات في موعدها الذي كان محددا يوم 24 ديسمبر الجاري، مع توقُّع إعادة ترسيم الخريطة السياسية على أسس جديدة، ربما ستؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار في الإقليم.
وستحتاج الأزمة اليمنية إلى مزيد من الإجراءات الحقيقية، وجهد دولي غائب، وذلك لمراجعة سلوك مليشيا الحوثي الإرهابية، والضغط على إيران لرفع يدها عن اليمن، وهو ما سيحتاج إلى مقاربة شاملة ومقايضات كبرى في ملفات عدة، في ظل التشابك السياسي والاستراتيجي بين الأطراف الإقليمية والدولية حول ملفات متعددة، من بينها ملف اليمن، وهو أمر لن يكون سهلا وسيحتاج بالفعل إلى إرادة دولية حقيقية.
إجماليا، سيستمر النظام الدولي على وضعه الراهن من حالة عدم الاستقرار، في ظل الصراع الأكبر بين القوى المؤثرة في المنظومة الدولية، وهو ما يحتاج إلى ضوابط حقيقية للتفاعل، ولإدراك أن الوضع الحالي إقليميا ودوليا قد يؤدي إلى مزيد من الفوضى، التي قد تؤثر فعليا على مصالح الدول الكبرى في المقام الأول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة