بعد نقل معبد أبوسمبل.. كيف أعيد ضبط شروق الشمس على وجه رمسيس الثاني؟ (خاص)
في فجر يومي 22 فبراير/شباط و22 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، تتسلل أشعة الشمس عبر ممر صخري طويل داخل معبد أبوسمبل لتضيء وجه الملك رمسيس الثاني.
ورغم أن الظاهرة كانت تحدث في الأصل يومي 21 فبراير و21 أكتوبر، فإن عملية نقل المعبد في ستينيات القرن الماضي لإنقاذه من الغرق بعد بناء السد العالي أدت إلى تأخر الظاهرة يوما واحدا، نتيجة لاختلاف طفيف في زاوية ميل الجبل الجديد.

ومع ذلك، بقيت هذه المعجزة الفلكية، التي يعود تاريخها لأكثر منذ ثلاثة آلاف عام، رمزا خالدا لعبقرية المصري القديم التي تجاوزت حدود الزمان والمكان.
أعجوبة منحوتة في قلب الجبل
ويُعد معبد أبوسمبل أكبر معبد صخري في العالم، نُحت بالكامل في جبل من الحجر الرملي على الضفة الغربية لبحيرة ناصر جنوبي أسوان. وقد بدأ تشييده في عهد الملك سيتي الأول، وأكمله ابنه رمسيس الثاني الذي حكم مصر لأكثر من ستة عقود، وجعل منه رمزا لعظمته.
الواجهة المهيبة للمعبد تتزين بأربعة تماثيل ضخمة للملك، يبلغ ارتفاع كل منها نحو 20 مترا، يرتدي فيها التاج المزدوج رمز وحدة مصر العليا والسفلى. وبين أقدام هذه التماثيل تظهر تماثيل أصغر لزوجته الجميلة الملكة نفرتاري وأبنائه، بينما تزين قاعدة الواجهة نقوش لأسرى من الآسيويين والأفارقة في مشهد يجسد انتصارات الملك العسكرية.

عبادة الشمس وتجليات "رع حر آختي"
خُصص المعبد لعبادة المعبود رع حر آختي، إله الشمس، الذي صُور بجسد إنسان ورأس صقر تعلوه قرص الشمس. وقد صُمم المعبد بدقة مذهلة تُمككن أشعة الشمس من اختراق ممر طوله 65 مترا داخل الجبل، لتصل في لحظتين نادرتين من العام إلى قدس الأقداس، حيث تضيء تماثيل رع حر آختي وآمون رع وبتاح ورمسيس الثاني مؤلها بينهم.
وتُعد هذه الظاهرة من أعظم الشواهد على براعة المصريين القدماء في علم الفلك، إذ إن أشعة الشمس تُضيء وجوه الآلهة الثلاثة ما عدا الإله بتاح، الذي يبقى في الظل احتراما لصفته كإله الظلام.
ووصفت الرحالة البريطانية إميليا إدواردز، التي زارت المعبد عام 1874، هذه اللحظة قائلة: "حين يلامس الضوء وجوه التماثيل، يتجلى أمام الناظر مشهد مفعم بالرهبة والجلال، وكأن الفجر جاء ليوقظ الإله من سباته الأبدي".

حسابات فلكية تسبق عصرها
أثبتت الدراسات الحديثة أن هذه الظاهرة لم تكن مصادفة، بل نتيجة حسابات فلكية دقيقة للغاية وضعها كهنة الفراعنة. فقد عرف المصريون القدماء حركة الشمس وميلها حول الأرض بزاوية 23.5 درجة، واستطاعوا تحديد اتجاه المعبد بدقة تامة بحيث يميل محوره بـ10.5 درجة جنوب الشرق الحقيقي.
ويعتقد الباحثون أن اختيار يومي التعامد ارتبط بمواسم الزراعة والحصاد في مصر القديمة، إذ كانا يوافقان بداية الموسم الزراعي في الخريف، وبداية موسم الحصاد في الربيع، في إشارة رمزية إلى تجدد الحياة ودورة الخصوبة والنماء.

من الغرق إلى الخلود
مع بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي وارتفاع منسوب المياه، كان معبد أبو سمبل مهددا بالغرق. حينها أطلقت منظمة اليونسكو حملة دولية لإنقاذه، في واحدة من أعظم عمليات الإنقاذ الأثري في التاريخ.
فقد تم تقطيع المعبد إلى أكثر من ألف قطعة حجرية ضخمة، ثم أعيد تجميعها بعناية في موقع مرتفع يبعد نحو 200 متر عن موقعه الأصلي، مع الحفاظ على اتجاهه الفلكي بأعلى درجة من الدقة الممكنة.
ورغم أن عملية النقل أدت إلى تأخر الظاهرة يوما واحدا فقط، فإنها تعد انجازا هندسيا مذهلا أعاد للعالم ثقة الإنسان بقدرته على صون تراثه.

عبقرية المصري القديم في علم الفلك
يؤكد الباحثون أن المصريين القدماء لم يكونوا مهندسين فحسب، بل علماء فلك رياديين سبقوا غيرهم بقرون. فقد ابتكروا تقويما دقيقا يعتمد على السنة النجمية المرتبطة بنجم الشعرى اليمانية (سيريوس)، وقسموا السنة إلى 12 شهرا من 30 يوما، مع خمسة أيام تكميلية تُعرف باسم "النسئ"، وهو التقويم الذي لا يزال أثره قائما في الحسابات الفلكية حتى اليوم.
كما تشير النقوش والرسومات على جدران المعابد، مثل معبد دندرة وهليوبوليس، إلى متابعة دقيقة للنجوم ومواقع الكواكب، مما يؤكد أن العمارة الدينية في مصر القديمة كانت موجهة بالعلم والفلك لا بالعشوائية.

رمسيس الثاني... الملك الذي تحدى الزمن
يظل رمسيس الثاني أحد أعظم ملوك مصر، جمع بين عبقرية القائد العسكري ومهابة الإله في نظر شعبه، واختار أن يجعل الشمس، رمز الحياة والبعث، تزوره مرتين في العام لتعلن له الخلود الأبدي.
واليوم، بعد أكثر من ثلاثة آلاف عام، يجتمع آلاف المصريين والسياح عند فجر يومي 22 أكتوبر و22 فبراير، ليشهدوا معجزة الضوء التي تربط الأرض بالسماء، وتذكر العالم بأن الحضارة المصرية لم تكن فقط فنا ونقوشا، بل علما دقيقا وإيمانا عميقا بالحياة والخلود.