أفريقيا والنظام الدولي.. التهميش يفجر بركان "القهر التاريخي"
من نظام قائم على القوة إلى آخر يرتكز على السعي لتقرير المصير والتضامن العالمي، مطالب أفريقية لإصلاح النظام العالمي الذي لم يخدم مصالحها، بل جعلها وقضاياها على الهامش.
تلك المطالب تحاول من خلالها أفريقيا الدفع باتجاه تحويل نظام الأمم المتحدة الذي "بات يحتضر" إلى آخر أكثر إنصافًا وانسجامًا مع التجارب التاريخية للقارة السمراء.
فماذا فعلت أفريقيا في ذلك الاتجاه؟
في أعقاب العملية العسكرية الروسية لأوكرانيا العام الماضي، رفضت 17 دولة أفريقية التصويت لصالح قرار للأمم المتحدة يدين روسيا، وحافظت معظم دول القارة على العلاقات الاقتصادية والتجارية مع موسكو، رغم العقوبات الغربية.
ورداً على ذلك، قامت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى بتوبيخ القادة الأفارقة لـ"فشلهم" في الدفاع عن النظام الدولي "القائم على القواعد"، معتبرين الحياد الأفريقي في الصراع الأوكراني "خيانة" للمبادئ الليبرالية.
لكن الحقيقة أن النظام الدولي القائم على القواعد لم يخدم مصالح إفريقيا، تقول صحيفة "فورين أفيرز"، مشيرة إلى أنه على العكس من ذلك، فقد حافظت القوى العالمية الكبرى - سواء كانت غربية أو شرقية - على مواقعها المهيمنة على الجنوب العالمي.
ومن خلال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، على وجه الخصوص، مارست الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة نفوذًا كبيرًا على الدول الأفريقية وأبعدت الحكومات الأفريقية إلى مقاعد المشاهدين، بينما تتخذ قرارات في شؤونهم الخاصة.
واستدلت الصحيفة الأمريكية، على رؤيتها، بالقصف البريطاني والفرنسي والولايات المتحدة لليبيا في عام 2011، والذي بررته تلك البلدان بتفسير متنازع عليه لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يجيز منطقة حظر طيران.
وأشارت إلى أنه قبل تدخل الناتو، كان الاتحاد الأفريقي ينتهج استراتيجية دبلوماسية لتهدئة الأزمة في ليبيا، لكن بمجرد بدء العملية العسكرية، أصبحت جهود الاتحاد الأفريقي موضع نقاش، وغرقت ليبيا في دوامة من العنف وعدم الاستقرار لم تفلت منها بعد.
وعلى مدى عقود، دعت الدول الأفريقية إلى إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وإعادة تشكيل النظام الدولي الأوسع وفقًا لشروط أكثر إنصافًا، إلا أن نداءاتهم جرى تجاهلها.
وتقول الصحيفة الأمريكية، إن النظام العالمي الحالي، الذي يهيمن عليه عدد قليل من الدول القوية التي تعرف السلام والأمن على أنهما فرض إرادتها على الآخرين، أصبح الآن في نقطة انعطاف؛ فالمزيد من البلدان في أفريقيا وأماكن أخرى في الجنوب العالمي ترفض الانحياز إلى الغرب أو الشرق، وترفض الدفاع عما يسمى بالنظام الليبرالي، لكنها أيضًا ترفض السعي لقلبه كما فعلت روسيا والصين.
وأشارت "فورين أفيرز" إلى أنه إذا كان الغرب يريد لأفريقيا أن تدافع عن النظام الدولي، فعليها أن تسمح بإعادة تشكيل هذا النظام، بحيث يعتمد على أكثر من الفكرة التي قد تصحح.
ماذا نعرف عن النظام الحالي؟
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإنه خلال معظم السنوات الخمسمائة الماضية، كان النظام الدولي "مصمَّمًا لاستغلال أفريقيا"، مشيرة إلى أن "تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي والتي راح ضحيتها أكثر من عشرة ملايين أفريقي بشحنهم إلى الأمريكيتين، أدت إلى جعل النخب في أوروبا والولايات المتحدة أثرياء بشكل استثنائي".
"الاستعمار الأوروبي وحكم الفصل العنصري كان مثالا وحشيًا وغير إنساني بالنسبة للأفارقة، فلا يزال تراث هذه الأنظمة محسوسًا في جميع أنحاء القارة"، تقول "فورين أفيرز"، مشيرة إلى أن الفرنك الذي يعد "من مخلفات الماضي الاستعماري لا يزال يمنح فرنسا نفوذًا هائلاً على اقتصادات 14 دولة من غرب أفريقيا ووسط أفريقيا، ويمثل تذكيرًا يوميًا بهذا القهر التاريخي".
ويسارع العديد من النقاد الغربيين إلى مطالبة أفريقيا "بالتغلب" على هذه المظالم والتوقف عن البكاء على الماضي؛ لكن المجتمعات الأفريقية لا ترى الماضي على أنه ماض، بل حاضر، لا يزال يلوح في الأفق.
وتقول "فورين أفيرز"، إن "المُعذِّبين في الماضي لم يغيروا عقلياتهم ومواقفهم؛ فقط فيروا خطاباتهم وأساليبهم، فبدلاً من أخذ ما يريدون بقوة غاشمة، كما فعلوا في الماضي، باتت تعتمد القوى الكبرى الآن على الصفقات التجارية التفضيلية وترتيبات التمويل لاستنزاف موارد القارة".
وأشارت إلى أن "القوى الكبرى لا تزال تستخدم القوة؛ فرغم الادعاء بدعم نظام دولي قائم على القواعد، فقد فرضت هذه القوى وحلفاؤها في كثير من الأحيان إرادتهم على دول أخرى، من قصف الناتو ليوغوسلافيا وليبيا إلى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق". وفي عام 2014، قادت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا تدخلاً عسكريًا في سوريا.
تدخلات القوى الكبرى
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإن تدخلات القوى العظمى أدت بشكل مطرد إلى تآكل التظاهر بالنظام القائم على القواعد وجعل العالم أقل استقرارًا؛ فعلى سبيل المثال، أثارت "الغزوات غير القانونية للعراق وسوريا حركات متطرفة عنيفة، بما في ذلك تنظيما القاعدة وداعش، والتي انتشرت منذ ذلك الحين مثل الفيروس في جميع أنحاء أفريقيا".
يعود السبب جزئيًا إلى "الفوضى التي أحدثها تدخل الناتو في ليبيا، والتي رسخت الإرهاب عبر منطقة الساحل، مما أثر على بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر"، تقول "فورين أفيرز"، مشيرة إلى أن شرق أفريقيا عانت -كذلك-، من "التطرف الديني المستورد من الشرق الأوسط والذي بات يقوض الاستقرار في كينيا وموزمبيق والصومال وتنزانيا".
وبينما هذه التهديدات ليست محسوسة في واشنطن أو لندن أو باريس أو بروكسل أو موسكو أو بكين؛ فإن القادة الأفارقة الذين لا رأي لهم يذكر في التدخلات التي أشعلت تلك التهديدات هم من يواجهوها.
وتقول "فورين أفيرز"، إن القوى الكبرى خلقت تجاورًا غريبًا؛ فمن ناحية بثت التدخلات غير القانونية الرعب في جميع أنحاء جنوب الكرة الأرضية، ومن ناحية أخرى، أخفقت في التدخل في الأزمات الإنسانية"، مشيرة إلى أن "هذا التناقض يكشف الكذبة الكامنة في قلب النظام الدولي اليوم".
وأشارت إلى "أن أولئك الذين يستمرون في المطالبة بحماية نظام قائم على القواعد الوهمية لم يكونوا في الطرف المتلقي لتوغل عسكري غير مصرح به". ويرى العديد من الأفارقة أن هذه الأصوات جزء من المشكلة وليست من الحل.
وأكدت الصحيفة الأمريكية، أنه على القوى العالمية أن تعترف بما عرفته البلدان الأفريقية منذ عقود: "أن النظام الدولي المختل يشكل خطراً واضحاً وقائماً على العديد من البلدان النامية"، مشيرة إلى أن نظام الأمم المتحدة للأمن الجماعي يحتضر ببطء، ويخنقه الإجراءات "الفظيعة" التي ترتكبها بعض أقوى أعضائه.
ولا يقتصر هذا النظام على استبعاد غالبية سكان العالم من عملية صنع القرار الدولي فحسب، بل غالبًا ما يتركهم أيضًا تحت رحمة القوى المعادية، بحسب "فورين أفيرز"، التي قالت إن الوقت قد حان لإعادة التفكير وإعادة تشكيل النظام العالمي، وإعادة تصور التعددية، وإعادة تصميم المؤسسات الدولية لإنشاء نظام عالمي أكثر فعالية للأمن الجماعي.
رؤية شاملة لأفريقيا
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإن الرؤية الأفريقية للنظام العالمي ستقوم على مبدأ المساواة وتصحيح الأخطاء التاريخية، واستنباط رؤى من النضالات المناهضة للاستعمار والمناهضة للفصل العنصري.
هذا التركيز على تقرير المصير يتجلى في عمل العديد من الحكومات الأفريقية لدفع التنمية الاقتصادية، والتي هي الشكل النهائي للتمكين، تقول الصحيفة الأمريكية، مشيرة إلى أن هذا الشعور يدعمه الاتحاد الأفريقي وجدول أعماله لعام 2063، الذي وضع خطة تنمية تسعى إلى تحويل القارة إلى قوة اقتصادية.
وتقول "فورين أفيرز"، إن "أفريقيا تناضل باستمرار من أجل نظام عالمي أكثر إنصافًا"، مشيرة إلى أن المجتمعات الأفريقية أظهرت للعالم كيفية تعزيز المصالحة بين الجماعات والمجتمعات المتحارب، وعلى الأخص في جنوب أفريقيا.
"هذا السجل الطويل في السعي لتحقيق السلام والمصالحة يمنح الأفارقة السلطة الأخلاقية للمطالبة بإعادة تشكيل النظام العالمي"، بحسب الصحيفة الأمريكية، التي قالت إن قطاعات من مجتمع صنع السياسة الخارجية الأفريقية تطالب بإصلاح النظام متعدد الأطراف، واستبدال نظام قائم على القوة بآخر قائم على أساس السعي إلى تقرير المصير، والتضامن العالمي، والعدالة، والمصالحة.
إعادة إنشاء النظام
إلا أنه سيكون "من السذاجة" الاعتقاد بأن المستفيدين من النظام الحالي، ولا سيما الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، سيسمحون بمراجعة ميثاق الأمم المتحدة لمجرد أن الدول الأفريقية طلبت ذلك.
وتقول الصحيفة الأمريكية، إنه سيتعين على أفريقيا بناء تحالف من الراغبين، وحشد بقية الجنوب العالمي وأي دولة متقدمة يمكن إقناعها وراء محاولتها إعادة تشكيل النظام متعدد الأطراف.
وأشارت إلى أن البلدان الأفريقية تلعب دورًا مهمًا في إصلاح نظام متعدد الأطراف يخذل غالبية سكان العالم، لكن حتى يتم أخذ مصالحهم ومخاوفهم على محمل الجد، ستواصل الحكومات الأفريقية اتباع استراتيجية عدم الانحياز والغموض المتعمد في تعاملاتها مع القوى الكبرى.
واختتمت الصحيفة الأمريكية تقريرها، بقولها إن محاولات إقناعهم أو تسليحهم بقوة لاختيار جانب في الأزمة الأوكرانية محكوم عليها بالفشل، فلا أحد في إفريقيا يعتقد أن النظام الدولي قائم على القواعد.
aXA6IDMuMTM5LjIzOS4xNTcg جزيرة ام اند امز