هناك إجماع دولي على أن جائحة كورونا كانت لحظة فارقة وفاصلة في تاريخ العالم المعاصر، ومن المؤكد أن هيكل النظام العالمي سوف يتغير بصورة جذرية على مختلف المحاور، وفي مختلف المجالات نتيجة لهذه الجائحة وتداعياتها.
وقد صدرت العديد من المؤلفات باللغة العربية ترصد آثار الجائحة على البشرية، وقليل من هذه الدراسات انصرف للنظر في المستقبل، أو استطلاع المسارات المختلفة التي من المتوقع أن تسير فيها البشرية في قادم الأيام، ومن هذا العدد المحدود من الدراسات التي تنظر بعمق في الاتجاهات المستقبلية للنظام الدولي بعد جائحة كورونا دراسة الدكتور محمد البشاري "اتجاهات النظام الدولي: عالم ما بعد كورونا".
والمؤلف تكوّن فكرياً ومنهجياً في المدرسة المغربية للمستقبليات، وهي المدرسة الرائدة عربياً والمنافسة عالمياً في هذا المجال، التي أسسها المرحوم الدكتور المهدي المنجرة، الذي يعتبر رائد دراسة المستقبليات بمنهجية علمية رصينة، فقد كان رحمه الله مولعا بعلم المستقبليات ومبدعا فيه، ومن جدارته واقتداره في هذا العلم أنه تنبأ بأحداث سياسية واقتصادية كبرى وقعت، وتحققت نبوءاته فيها. وللدكتور المهدي المنجرة العديد من المؤلفات التي ينبغي أن يطلع عليها كل مشغول بمستقبل وطنه وأمته، أهمها "الحرب الحضارية الأولى" عام 1991.
وعلى خطى المفكر المغربي الدكتور المهدي المنجرة تأتي دراسة الدكتور البشاري، لتقدم بانوراما من الأفكار والموضوعات ترصد التوجهات التي سوف يأخذها النظام الدولي في مختلف المجالات السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والتعليمية، والصحية، والثقافية والتكنولوجية، والبيئية. ومن خلال دراسة التحولات التي طرأت على العالم في زمن الجائحة فإن البشرية تحتاج إلى أن تسلك طرقا مختلفة في كل تلك المجالات، خصوصاً تفعيل التعاون العلمي والتكنولوجي، ودعم قنوات التواصل المعلوماتي بين مختلف الدول والمجتمعات من أجل مواجهة أي ظواهر سلبية مستقبلية، بحيث من خلال المعرفة والتعاون يمكن التقليل من أضرارها من خلال التنبؤ بها، والاستعداد لها، أو الاستجابة السريعة لها فور وقوعها.
كذلك من الضروري أن يتم إيجاد معادلات اقتصادية جديدة تحمي المجتمعات الفقيرة، من التداعيات السلبية للكوارث العالمية، وتمكن هذه المجتمعات خصوصاً الفئات الضعيفة فيها مثل المرأة، ومحدودي الدخل من الحد الكريم من الرعاية الصحية، ومن توفير مستلزمات الحياة.
ويرصد الكتاب كذلك التحولات الرقمية الهائلة في العالم، وتأثيراتها السلبية والإيجابية على المجتمعات البشرية، فرقمنة كل الأنشطة الإنسانية خصوصا التعليم والمعرفة والثقافة سوف تقود إلى بروز ظواهر عالمية جديدة، وسوف تحدث تغييرات هيكلية في منظومة القيم العالمية، وفي ديناميات التفاعل والتواصل داخل المجتمعات المختلفة، فقد أدت الاستجابة للجائحة إلى أن أصبح التعليم والثقافة والفكر والإدارة تتم من خلال وسائط رقمية، وأصبح البشر أقرب إلى الروبوتات، حيث فقدوا التواصل الإنساني والكيمياء التي تميز علاقات البشر في المجتمعات الطبيعية.
ويفرد الكتاب أهمية خاصة للبيئة والتغيرات المناخية وتأثيرها على مستقبل البشرية، ويعول الكتاب على Cop 28 الذي سوف ينعقد في دولة الإمارات العربية المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والذي تتعلق به الآمال لتحقيق اختراق حقيقي في العمل الجماعي لمواجهة التغيرات المناخية التي تهدد البشرية دون تمييز بين غني أو فقير، وفي مؤتمر المناخ المقبل سيتم اختبار الالتزامات التي تعهدت بها الدول في Cop 27 الذي انعقد في مصر العام الماضي، وشهد منظومة من الالتزامات غير المسبوقة خصوصا التعهدات المالية للدول الغنية تجاه الدول الفقيرة.
إن التفكير في مستقبل النظام الدولي ليس أمراً ثانوياً، أو من قبيل الرفاهية، أو من القضايا التي ينشغل بها المثقفون والمفكرون، وإنما اصبح شأناً عاماً نتيجة لما حدث خلال السنوات الماضية من ترابط واعتماد متبادل بين مختلف الدول والشعوب والمجتمعات، فقد أثبتت جائحة كورونا ومن بعدها حرب أوكرانيا، أن أصغر قرية في أفريقيا تتأثر بالنزاع بين قرى روسيا وأوكرانيا، لأن القمح على سبيل المثال؛ الذي هو الغذاء الرئيسي لمعظم شعوب أفريقيا ينتجه الفلاحان الروسي والأوكراني، وإذا تخاصم الأخيران فقد جاعت شعوب تبعد عنهما آلاف الكيلومترات وقد تكون لم تكن تعرف يوما أنها تعيش على إنتاج الفلاحين الروس والأوكران. لذلك فإن فهم تحولات ومسارات النظام العالمي قد صار شأناً محلياً وضرورة حياتية لمختلف المجتمعات والطبقات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة