ما تردد مؤخرا حول التباينات الأوكرانية الأمريكية في مواجهة الروس، يقود إلى حقيقة واحدة بنيت عليها تلك الحرب في القارة الأوروبية، ولا تزال المحدد الوحيد لها.
فحوى تلك الحقيقة باختصار، أنه لا شيء في الميدان أو أروقة السياسة يخص تلك الجبهة الغربية مع موسكو، يمكن أن يتحرك دون مشورة واشنطن، أو دون موافقة الإدارة الديمقراطية للبيت الأبيض.
وفيما يقاتل الأوكرانيون لإفشال العملية العسكرية الروسية داخل دولتهم، إلا أنهم لا يتحركون على ضوء خطة سياسية غربية تهدف إلى حشد أكبر تأييد دولي لكييف، أو يحاربون في سبيل استراتيجية كبرى لضمان الهيمنة الأمريكية على العالم.
فالأمر بغاية البساطة بالنسبة لهم: سلاح مقابل سلاح، وجندي مقابل جندي، ودم مقابل دم، حتى يحسم النصر لهم أو لخصومهم.
أهداف أمريكا في حرب أوكرانيا
وبالنسبة للولايات المتحدة هذه المعادلة البديهية في الحرب ليست محور الأزمة. أو بتعبير آخر، هي الهدف الخامس على قائمة أولويات البيت الأبيض، يسبقها أربع غايات لن تتحقق إلا إذا طال أمد المواجهة الروسية الغربية عاما آخر أو ربما عقد من الزمن، فيما سيتكفل الوقت بكل ما يستعصي على الحسم اليوم، ويبقي واشنطن سيدة الموقف والقرار.
الغاية الأولى لأمريكا في حرب أوكرانيا هي تخريب علاقات الأوروبيين مع روسيا. وتحويل موسكو من حليف استراتيجي محتمل، إلى عدو استراتيجي مؤكد. وكلما اشتدت الخصومة بين الطرفين تلاشت إمكانية التعاون الاقتصادي بينهما، وازدادت حاجة القارة العجوز إلى القوة الأمريكية للدفاع عنها، وإعانتها اقتصاديا وماليا وسياسيا ودبلوماسيا أيضا.
أما الغاية الثانية لواشنطن من الحرب الأوكرانية، فهي إضعاف روسيا اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا عبر الخصومة مع الجيران الأوروبيين روسيا اقتصاديا وعسكريا وسياسيا؛ فالروس في عهد الرئيس فلاديمير بوتين استردوا جزءا يسيرا من إرث الاتحاد السوفيتي، فيما لن يهدأ الرجل الطموح الذي يسكن الكرملين حتى يعيد مجد أجداده بقدر ما أمكن، في حلم كلما كبر استحال إلى كابوس يقلق راحة الغرب.
والروس هم أكبر أعوان الصينيين في خطط التعددية القطبية التي تطمح إليها بكين في العالم بعد سنوات قليلة، مما يؤدي ضرب اليد اليمني للخصم إلى شعور بالقلق من المواجهة المحتملة لك معه باليد اليسرى، وينتابه التردد إزاء الاستمرار في استفزازك أو المضاربة على مصالحك. وهنا تبدأ واشنطن بالتضييق على النمر الآسيوي سعيا وراء ترويضه بالحسنى.
على هامش هذه الأهداف الكبرى تمرر الولايات المتحدة أسلحتها لكل بقعة في العالم، استعدادا لمواجهة الروس أو الصينيين، فالدولة التي ترفض شراء الأسلحة الأمريكية عليها أن تدافع عن نفسها، أو تنتحر بتعبير أدق، في المواجهة المقبلة بينها وبين أي من القوتين العالميتين، وللكوكب عبرة في أوكرانيا التي كانت لتسقط خلال أيام دون الدعم الأمريكي لها.
ضغوط أمريكية
وكلما احتاج الأوكرانيون للسلاح في مواجهة الروس ازدادت ضغوط الولايات المتحدة على دول العالم في الشرق والغرب لتزويد كييف بالأسلحة السوفياتية التي في مخازنها، وبعد أن تنفد هذه المخزونات لن يكون أمام الجميع إلا مصانع السلاح الأمريكية كي تحمي نفسها وتستعد لأي مواجهة مقبلة مع موسكو أو بكين أو حتى الغزو الفضائي القادم للأرض.
ولم تجد أمريكا بعد ضرورة لتزويد كييف بالأسلحة الغربية اللازمة للنصر على روسيا؛ فكلما بقي الأوكرانيون بحاجة إلى الطائرات والدبابات والدفاعات الجوية والصواريخ بعيدة المدى، استمر أمد حربهم إلى أجل يسمى فقط عبر البيت الأبيض. ولأن الأمر بات واضحا لقيادات كييف العسكرية والسياسية، اتسعت التباينات والخلافات بينهم وبين واشنطن.
ولا يملك قادة الميدان في باخموت وغيرها من المدن الأوكرانية على خطوط المواجهة مع الروس، ما يبررون به لجنودهم، تأخر أو تباطؤ الدعم الغربي بالسلاح والعتاد اللازمين لتحقيق النصر، ولن تستطيع كييف ترديد الحجج ذاتها على جنودها مرارا وتكرارا، وهي تراهم يتساقطون الواحد تلو الآخر في الميدان، ومن ينجو من الحصار اليوم يقع فريسته غدا أو بعده.
لم يترك برلمانا غربيا أو فعالية دولية أو محطة فضائية أو حدث عالمي، إلا وتحدث من خلاله الرئيس فولوديمير زيلينسكي عن حرب بلاده مع الروس نيابة عن الأوروبيين. وفي كل مرة يخطب فيها يؤكد أن مشكلة كييف تكمن في نقص الأسلحة فقط، لا في الإرادة ولا القدرة على إدارة المعارك، ولا في الحشد العالمي لصالح فكرة دفاع الدولة عن نفسها.
مفتاح بوابة تسليح أوكرانيا
فحتى من خلال الميدان أراد زيلينسكي أن يقنع الغرب بأن أوكرانيا قادرة على المبادرة، وضرب الروس في عقر دارهم، إن وصلت إلى جيشه الأسلحة الصحيحة، وأبرز مثال على ذلك كان تفجير جسر القرم في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وهناك عدد من المحاولات غيره نجح بعضها، فيما تمكنت واشنطن من وقف بعضها الآخر لمخالفتها المعايير الأمريكية في الحرب.
حتى اليوم تتحكم أمريكا ببوابة تسليح أوكرانيا بما يتوافق مع معاييرها للجبهة الغربية المفتوحة مع روسيا. ومن يملك مفتاح تلك البوابة هو وحده القادر على إدارة تلك الجبهة، حتى ولو خلت ساحاتها من جندي واحد له. وهناك أمثلة كثيرة يمكن أن يتعظ ويتعلم منها الأوكرانيون، مثل سوريا والعراق وأفغانستان وغيرها من جبهات حروب أمريكا حول العالم.
لن يفتح باب تسليح أوكرانيا على مصراعيه على المدى المنظور، ولا أحد يعرف مشيئة أمريكا في هذا السياق إلا من اطلع على خطط البيت الأبيض في إدارة أزمات الكوكب على اختلاف أنواعها. والسؤال هنا، هل يملك الأوكرانيون أوراقا تجبر الأمريكيين على نصرتهم قلبا وقالبا، أم أن التباينات بين كييف وواشنطن ستكبر إلى أن تنفجر بطريقة همجية؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة