قبل بضعة أعوام خَلَت كان الحديث عن خروج سوريا من عنق الزجاجة بسبب الأحداث التي عانتها منذ 2011 ضرباً من الخيال.
إلا أن عوامل ذاتية وأخرى موضوعية أسهمت في اتساع مروحة التفاؤل، بإمكانية العبور إلى الضفة الأخرى بأقل الخسائر على مستوى الدولة والشعب.
ويعني الحديث عن أقل الخسائر في المشهد السوري الماثل حاليا: بقاء بعض مقومات الدولة والمجتمع صالحة للشروع بعملية نهوض جديد بإرادة واعية تستلهم تجارب الآخرين أو بعضا منها، وتستثمر الفرص السانحة التي تصنعها مبادرات شقيق عربي بإخلاص.
مخاوض عسيرة
منذ المرحلة الأولى التي تلت استقلالها عام 1946، مرت سوريا في مخاوض عسيرة مختلفة الدوافع، متناقضة الأهداف، وكانت تعبر جميعها عن حالة الاستقطاب الإقليمي والدولي في مرحلة التشكل الجديد للمنطقة بشكل خاص بعد الحرب العالمية الثانية ونتائجها الجيوسياسية والجيوستراتيجية، وما كوّنته من انقسامات عمودية في المشهد الدولي، بسبب تنافس القوتين العظميين المنتصرتين في الحرب على النفوذ وعلى المكانة، وهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي.
لم يسلم الداخل السوري من منعكسات تلك الإفرازات، بل تأثر في كثير من الأحيان بلهيبها القادم من محيطها العربي حينا وجوارها غير العربي أحيانا أخرى، وتردد صداها على شكل اضطرابات داخلية وصراعات حزبية وسياسية وعدم استقرار، إلا أنه لم يجنح حتى في ذروة تجلياته إلى دورة عنف، ولم يكن يمثل تهديدا للدولة وللشعب كما حدث خلال أحداث العشرية الأخيرة.
ويميل بعض المؤرخين المعاصرين إلى اعتبار بقاء سوريا ضمن دائرة الصراع الإقليمي والدولي؛ كونها تمتاز بموقع استراتيجي يعود إلى موقعها الجغرافي الذي منحها ميزات، وفرض عليها تحديات.
ويرى الكاتب والمؤرخ البريطاني باتريك سيل في كتابه "الصراع على سوريا" أن تلك الميزات المتعارضة "لا تعني أن سوريا فقط نقطة التقاء للمنافسات الدولية، وأنها الضحية المستكينة لنزاعات الشعوب الأخرى، فالعكس كان الصحيح أحيانا، فالخلاف والتنافر فيها كانا يُصدَّران أحيانا إلى جيرانها الأقربين والأبعدين".
المقاربة الإماراتية
أنتجت المقاربة الإماراتية للوضع السوري منذ ما ينوف على السنوات الأربع وبجميع حواملها السياسية والإنسانية والأمنية، حالة في أروقة جميع العواصم العربية والإقليمية والدولية، فنبهت أولئك المتمترسين خلف خطوط الخصومة إلى أهمية الدبلوماسية لإنتاج مقاربات متوازنة تتناغم مع طروحاتهم وتلبي مصالح كل الأطراف، وشجعت بالمقابل أولئك الراغبين في تطويق تفاعلات سنوات الأحداث على الاهتمام أكثر بضرورة وضع حد لها، لكيلا تتسع شظاياها خارج الحدود أكثر.
لا شك في أن كارثة الزلزال أطلقت العنان عند الكثيرين، لكن التحركات العملية من جانب غالبية المجتمع الدولي لإغاثة سوريا عكست وجود استعدادات كامنة تنتظر الفرصة الملائمة للإفصاح عن رغباتها وجديتها، للمساهمة في طي صفحة الأحداث وآثارها على الشعب السوري.
المصالح تتداخل
ما تشهده المنطقة اليوم من تحركات وتحولات على الصعد كافة تؤكد وجود حقيقة سياسية جوهرها أن مصالح الدول والمجتمعات في الإقليم تتقاطع وتتداخل بما يسمح باعتمادها أساسا راسخا لعلاقات تفاعلية لا تصادمية، وأن كتلة المصالح المتبلورة يمكنها ضبط إيقاع العلاقات بين اللاعبين، ودعم الخيارات المستقلة لكل دولة ضمن معادلة الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الطرف الآخر.
من تلك الزاوية تبدو سوريا نقطة ارتكاز في هذه المعادلة، فهي معنية بشكل كبير في تجاوز حالها الصعب من خلال التفاعل مع المبادرات الدبلوماسية والاستثمار في المناخ الناشئ في محيطها العربي وخارجه، والدفع نحو الانخراط الفعلي في صياغة وبلورة قواسم مشتركة تتلاقى عندها الإرادات والمصالح على حد سواء.
التجربة السورية خلال سنوات الأحداث التي عانتها، وما أفرزته من اضطراب في بعض أجزاء المنطقة، تجعل الجهود العربية ذات أهمية خاصة في معالجتها، خاصة في ظل الجهود الدبلوماسية والسياسية الحثيثة المبذولة من أكثر من دولة عربية.
إن الانتقال إلى مراحل متقدمة على طريق صياغة مبادرة عربية مشتركة تكون ركيزة لحل مستدام في سوريا، يمكن أن يكون مقدمة لعمل عربي موحد في ميادين أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة