من جملة الحقائق التي كشفت عنها كارثة الزلزال في سوريا، وما خلّفه من آثار مدمرة في المحافظات التي ضربها، برزت المعاناة السورية وحجم المأساة التي تبدت على الملأ أمام العالم.
رفعت الكارثةُ الغطاءَ عن تفاصيلها المتراكمة جراء الأحداث التي عصفت بها على مدى أكثر من عقد من الزمن، وتركت ندوبا على كامل خريطتها، كما أفصح الزلزال عن تبعات تلك السنوات التي أنهكت مرافقها ومؤسساتها وبنيتها التحتية، وقلصت مواردها إلى حدود صفرية في بعض القطاعات.
بالمقابل دفعت الكارثةُ إلى الواجهة حقيقةً أخرى أظهرت حجم الحاجة السورية إلى مشروع عربي متكامل البنيان، سياسيا واقتصاديا، يمنحها مقومات التعافي على مختلف الصُّعُد.
جسور الإغاثة الجوية التي دشنتها دولة الإمارات العربية المتحدة نحو سوريا، وكذلك خطوط الإغاثة البرية والبحرية من بعض الدول العربية تجاوزت بمضامينها ودوافعها مشهدَ الإسناد والشهامة والنخوة وما انطوت عليه من قيم نبيلة وأصيلة، فقد أشاعت الكثير من الآمال لدى السوريين بديمومة الإسناد العربي عبر الانخراط الواسع في مساعي لملمة جراحهم، التي أعيت الجميع، دولةً ومؤسساتٍ، والإسهام الفاعل في طيّ صفحات السنين العجاف التي تقلبت عليهم.
من حيث المبدأ، فإن السياسي يتداخل في الاقتصادي إلى حدود يصعب في كثير من القضايا الفصلُ بين خيوطهما، لأن حواملهما متشابكة وواحدة.
في الحالة السورية الراهنة، لا تتوقف الحاجة عند المتطلبات الاقتصادية فحسب، بل تتعداها إلى مقتضيات العمل السياسي التي لا بد أن تؤسّس خطين متلازمين متوازيين في مسيرة الجهد المطلوب كي تصل السفينة إلى مواني الاستقرار.
موضوعيا، ليس بمقدور سوريا وحدها في وضعها الراهن على الصُّعُد الداخلية والخارجية استعادة عافيتها والنهوض مجددا، وليس بمقدور دولة عربية بمفردها أيضا تحمُّل الأعباء الاقتصادية والسياسية المترتبة، إقليميا ودوليا، على عملية الانخراط في تعافي سوريا لأسباب نابعة من الاصطفافات والخيارات السياسية التي تكرست خلال سنوات الحرب، والعقوبات والحصار الذي استجلبته تلك الأحداث.
برزت خلال الأيام التي أعقبت الزلزال مواقف ومبادرات برلمانية ودبلوماسية عربية تُرجمت بزيارات لدمشق، من حيث الشكل كانت تحت عنوان التضامن الإنساني، لكنها انطوت في جوهرها على مضامين سياسية أبعد من حدود التضامن الإنساني، وحملت في بعضها إشارات إلى أن إمكانية إنهاء الأزمة السورية بإرادة وقرار عربيَّيْن ممكنة، بالتشارك والحوار مع القيادة السورية، ويمكن أيضا أن يمثل ذلك الهدف أولوية عربية بعد تقصّي الخيارات المتاحة والجدية وتوفير مستلزمات استمرارها، بحيث تكون أرضية لإنتاج مقاربات مشتركة بين جميع الأطراف المحلية والعربية وتأطيرها ضمن رؤية شاملة لحل سوري مستدام يحوز قبولا إقليميا ودوليا.
الكرة اليوم في الملعب العربي، بما فيها سوريا، وبقدر ما تبدو المسؤولية هامة، بل واستثنائية، في الاستفادة من فرصة التعاطف العالمي الإنساني مع الشعب السوري، واستثمار التعليق المؤقت لبعض بنود العقوبات الأمريكية والأوروبية بعد كارثة الزلزال، فإن سوريا تبدو أكثر استعدادا لتشاطرهم الرؤية والقرار بعد أن قرأت المواقف العربية بكثير من الجدية والاهتمام بحيثياتها وأبعادها، الأخوية الإنسانية، وكذلك السياسية، لطيّ صفحة جراحاتها بإسناد مباشر من قبل حاضنتها العربية، وقد التقت معهم عند الكثير من البديهيات المتعلقة بصون سيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها.
وبالتالي بات ضروريا في ظل المعطيات الناشئة سوريًّا وعربيًّا ودوليًّا العمل بما يشبه مشروع "مارشال" عربي يتوازى فيه المساران السياسي والاقتصادي، فما يوفره الاقتصاد من تلبية للاحتياجات كافة يتطلب رؤيةً، بل خطة سياسية بمنظور عربي، تعالج الوضع الداخلي وتؤمن الاستقرار لسوريا وشعبها ضمن تلك البديهيات، تمهيدا للاقتصادي الذي يجلب النمو والازدهار، ذلك أن الأمر لم يعد يتوقف عند حدود المصالح المتبادلة بين سوريا وأشقائها العرب وحاضرهم ومستقبلهم وحسب، بل يتخطاها، خاصة حين تتم ترجمة الإرادات السياسية من قبل سوريا والعرب إلى برامج وخطط، عندها تصبح المعادلة قائمة على رعاية واحترام المصالح، ليس بينهم فقط، بل ومع القوى الإقليمية والدولية أيضا، عبر عملية تفاعلية تعود بمردودها الإيجابي على أمن واستقرار الجميع.
بعد السنوات العجاف التي مرت على سوريا، تأكد أن لا غنى لها عن أجنحتها العربية بما تشكله من عمق استراتيجي وحضاري، وتأكد للعرب أن عدم ترك ساحتها لأطماع الآخرين أكثر جدوى من بقائها وحيدة.
يقول الاقتصادي الإنجليزي جون كينز في كتابه "النتائج الاقتصادية للسلام": "كَسْبُ السلام لا يقل أهمية عن الانتصار في الحرب".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة