حدث في رمضان.. افتتاح الجامع الأزهر بالقاهرة
الجامع الأزهر من أقدم الجامعات في العالم، تناوبت عليه عدة مذاهب كما تناوبت عليه المحن خاصة في عصور الاحتلالات
في يوم 7 رمضان عام 361هـ-971م تم افتتاح الجامع الأزهر وإقامة أول صلاة جمعة فيه، وهكذا صار الأزهر جامعا للعبادة وجامعة للعلم، وهو من أقدم الجامعات بالعالم.
والجامع الأزهر هو رابع جامع بني بمصر بعد جامع عمرو بن العاص الذي بني عام 21هـ-641م، وجامع العسكر الذي بني عام 133هـ-750م، وجامع أحمد بن طولون الذي بني عام 265هـ-879م.
يرجع تاريخ بداية تأسيسه إلى عام 359هـ-970م، واستغرق بناؤه عامين وتم اكتماله في شهر رمضان عام 361هـ-972م، ولم يكن يُعرف وقت إنشائه بالجامع الأزهر، وإنما أطلق عليه اسم جامع القاهرة، وظلت هذه التسمية غالبة عليه لعدة سنوات إلى أن تمت تسميته بالجامع الأزهر، وظلت هذه التسمية إلى وقتنا الحاضر.
وسُمي "الجامع" لأنه من أكبر الجوامع حجما، والبعض قال إن تسميته جاءت تفاؤلا بما سيكون عليه من شأن العلوم وازدهارها فيه، كما سمي "الأزهر" نسبة إلى فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يتكون الجامع الأزهر من قسمين، الأول: مسقوف ويُعرف بالحرم، والآخر: مكشوف ويسمى الصحن. ويسمى هذا الحرم اليوم بالحرم القديم، وفيه محراب يُعرف بالقبلة القديمة وكان بجانب المحراب منبر نُقل فيما بعد إلى جامع الحاكم.
ويضم الحرم القديم 76 عمودا من الرخام الأبيض تنتظم في صفوف متوازية، وتتزين جدرانه بالآيات القرآنية المنقوشة بالخط الكوفي. وسقف الحرم من الخشب المتقن الصنع، وفي الحرم نوافذ للنور والهواء، وأما صحن الجامع فأرضه مرصوفة بالحجر، وتحيط به الأروقة ذات الأعمدة الرشيقة.
وكان للأزهر في البداية منارة واحدة ومحراب واحد، ثم أصبحت بعد 5 منارات، كما تعددت المحاريب حتى بلغت 13 محرابا لم يبقَ منها إلا 6 فقط.
وللجامع الأزهر 8 أبواب، في الجانب الغربي الخارج إلى ميدان الأزهر بابان: "باب المزينين، والباب العباسي"، وفي الجانب الجنوبي: "باب المغاربة، وباب الصعايدة، وباب الشوام"، وفي الجانب الشمالي "باب الجوهرية"، وفي الجانب الشرقي "باب الحرمين وباب الشوربة".
وينقسم إلى رواقين، الرواق الكبير وهو القديم ويلي الصحن ويمتد من باب الشوام إلى رواق الشراقوة، والرواق الجديد ويلي القديم ويرتفع عنه بمقدار درجتين، وسقف الرواقين من الخشب، والمنبر الحالي للجامع من الخشب الخرط وهو حديث، أما المنبر الأصلي فقد نقل إلى جامع الحاكم. وفي الرواق الجديد محرابان، وفي الرواق القديم محراب واحد يُعرف بالقبلة القديمة.
خطا الأزهر خطوة واسعة ليكون جامعة تُعنْى بتدريس العلوم الشرعية واللغوية إلى جانب كونه مسجدا جامعا للناس؛ ففي أوائل عهد الفاطميين عام 369هـ-980م جلس الوزير "يعقوب بن كلس" يلقي دروسا في الفقه الشيعي من كتاب ألّفه يسمى "الرسالة الوزيرية"، وكان يحضر دروسه القضاة وكبار رجال الدولة والفقهاء.
وبعد قيام الدولة الأيوبية في مصر عام 567هـ-1171م، عملت على إلغاء المذهب الشيعي وتقوية المذهب السني، وذلك بإنشاء مدراس جديدة لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة مثل: المدرسة الناصرية لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي وعرفت بهذا الاسم لقيامها بتوزيع القمح على شيوخها وطلابها، والمدرسة السيفية لتدريس الفقه الحنفي، واشتهرت بهذا الاسم لأنها كانت تطل على سوق السيوفيين بالقاهرة.
وأغرى عناية الدولة بهذه المدارس وإغداق الأموال على القائمين عليها أن انتقل إليها الشيوخ والمدرسون وطلاب العلم؛ الأمر الذي أدى في النهاية إلى فتور الإقبال على الأزهر وضعف الحركة العلمية فيه.
استرد الأزهر عافيته ومكانته العالية في عهد الدولة المملوكية وتجددت عمارته وأثاثه، وأقيمت فيه صلاة الجمعة لأول مرة بعد انقطاع دام نحو 98 سنة هجرية وذلك في (18 من ربيع الأول 665 هـ الموافق 17 من ديسمبر 1267م) وكان يوما مشهودا في عهد السلطان بيبرس.
وأصبح الأزهر منذ القرن الثامن الهجري مقصد العلماء والطلاب من سائر أنحاء العالم الإسلامي بعد أن قضى التتار على بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية، وسقطت قرطبة وغيرها من حواضر العالم الإسلامي.
وتبوأ نوعا من الزعامة الفكرية والثقافية وحفلت القاهرة بفضله في تلك الحقبة بجماعة من العلماء من أمثال: النويري صاحب نهاية الأرب، وابن منظور صاحب لسان العرب، والقلقشندي صاحب صبح الأعشى، وابن خلدون صاحب المقدمة، وابن حجر العسقلاني صاحب فتح البارى بشرح صحيح البخاري وغيرهم.
وفي عهد الدولة العثمانية احتفظ الأزهر بمكانته المرموقة التي تعهدت مبانيه بالإصلاح والترميم وبإضافة منشآت جديدة إليه وزيادة أروقته وإمداده بما يحتاجه الدارسون من كتب ووسائل معيشية، وحرصت على عدم المساس بالأراضي الزراعية التي أوقفها الناس للإنفاق من ريعها عليه.
وشهد الأزهر لأول مرة في تاريخه إنشاء منصب "شيخ الأزهر".
ويجمع المؤرخون على أن أول من تقلّد هذا المنصب هو الشيخ "محمد بن عبد الله الخراشي" المالكي المتوفى سنة 1101هـ- 1690م، وكان اختياره يتم دون تدخل من الدولة، فإذا اجتمعت كلمة العلماء على اختيار واحد منهم لهذا المنصب الرفيع أبلغوا به الوالي الذي يتولى تقليد شيخ الأزهر الرداء الرسمي.
ثورة القاهرة الأولى:
وكان للأزهر دور كبير في الوقوف أمام الحملة الفرنسية التي يقودها نابليون بونابرت عام 1213هـ-1798م.
فلم ينخدع الكثير من علماء الأزهر بمحاولات التودد وإظهار التبجيل والتقدير الذي أبداه قائد الحملة نحوهم؛ حيث أشعلوا ثورة القاهرة الأولى في 11 من جمادى الأولى 1213هـ الموافق 21 من أكتوبر 1798م التي هاجمت الجنود الفرنسيين وفتك بهم الثوار.
ولم تهدأ الثورة إلا بعد أن ضرب الفرنسيون الأزهر والجهات المحيطة به بالمدافع واحتلوا الجامع بخيولهم وبالوا فيه، وألقوا بالمصاحف على الأرض وداسوا عليها بأحذيتهم، وسلبوا ما وجدوا من أموال الطلبة في أروقة الأزهر، وقبضوا على عدد من مشايخ الأزهر المتهمين بالتحريض على الثورة وأعدموا بعضهم.
استمر الأزهر على موقفه من التحدي ومقاومة المستعمر بشتى الوسائل الممكنة؛ فاشترك في ثورة القاهرة الثانية التي اشتعلت في 166 شوال 1214هـ الموافق 20 مارس 1800م ودامت 33 يوما، وكان من زعمائها من مشايخ الأزهر: "محمد السادات، وعمر مكرم".
ورأى كليبر -القائد العام للحملة بعد رحيل نابليون- أن يستعين بعلماء الأزهر للتوسط بينه وبين زعماء الثورة، غير أن هذه الوساطة لم تلقَ نجاحا وقام كليبر بضرب العاصمة بكل وحشية حتى استسلمت.
وفي أثناء ذلك قام "سليمان الحلبي" وهو أحد طلبة الأزهر باغتيال كليبر أثناء تجوله في حديقة منزله، وذلك في 21 محرم 1121هـ الموافق 14 يونيو 1800م، وأسفر التحقيق عن سؤال عدد من الشيوخ والأساتذة والقبض على عدد منهم وانتهت محاكمتهم إلى إعدام سليمان الحلبي و3 ممن كانت لهم به صلات قبل إقدامه على عملية الاغتيال.
وبعد ذلك الحادث اتخذ الفرنسيون إجراءات أمنية مشددة في الأزهر، فقاموا بإحصاء الطلبة وكتبوا أسماءهم في قوائم، وأمروا بحفر بعض الأماكن بداخل الجامع بحجة التفتيش على الأسلحة، وأخرجوا منه الطلاب العثمانيين والشوام.
وأحس القائمون على الأزهر أن سلطات الاحتلال الفرنسي تُبيّت أمرا فرأوا تفويت الفرصة عليهم، وذلك لأن بقاء الجامع مفتوحا في مثل هذه الظروف العصيبة لا يخلو من أخطار؛ فرأى شيخ الأزهر "عبد الله الشرقاوي" ومن معه من كبار العلماء إيقاف الدراسة في الأزهر وتعطيل الصلاة فيه، فتم إغلاق المسجد وتسمير أبوابه من جميع الجهات.
وظل الأزهر مغلقا قرابة عام حتى أعلنت أنباء شروع الفرنسيين في الجلاء عن مصر بادر القائمون عليه بتنظيفه وفتح أبوابه في 19 من صفر 1216هـ الموافق 2 من يوليو 1801م.
وحرص "يوسف ضياء باشا" على زيارة الجامع وتفقد أحواله وسير الدراسة فيه عقب افتتاحه، وعادت الحياة العلمية والدينية إلى الجامع، وتدفق طلبته إلى أروقته يتلقون دروسهم، ومضى الأزهر في طريقه المرسوم لخدمة الدين واللغة العربية.