حدث في رمضان.. مولد عبد الرحمن الداخل "صقر قريش"
في مثل هذا اليوم 5 رمضان من عام 113هـ ولد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان في دمشق، وقد عُرف باسم: عبد الرحمن الداخل
في مثل هذا اليوم 5 رمضان من عام 113هـ ولد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان في دمشق، وقد عُرف باسم: عبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل الأندلس من ملوك الأمويين، كما أطلق عليه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لقب "صقر قريش"؛ لأنه تغرَّب وقطع البر والبحر، وأقام وحده ملكا كان قد أدبر.
كانت أمه بربرية من سبي المغرب واسمها: "داح"، وقد استفاد عبد الرحمن من هذه القرابة حين فر إلى المغرب، وتوفيت والدة معاوية وهو لا يزال صغيرا، فنشأ وتربى في بيت الخلافة.
نشأ عبد الرحمن في قصر جده بين أعمامه وأبناء عمومته، فورث تقاليد الأسرة الأموية، واكتسب عاداتها وأخلاق الحكام، وكان شديد الاعتزاز بأمويته، وقد عاصر جده خلال نهوضه بأعباء الحكم وانتصاره على خصوم الدولة واحدا تلو الآخر، وفي بداية شباب عبد الرحمن شهد سقوط الخلافة الأموية سنة 132هـ؛ فقد هُزم وقُتل آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد، وتعرض من بقي على قيد الحياة من الأمويين إلى الملاحقة من العباسيين.
كان عبد الرحمن رجلا شجاعا مقداما سخيا شاعرا، لا يكل الأمور لغيره، ولا ينفرد برأيه، سريع الوثوب، نشطا لا يخلد إلى الراحة، وقد شبهه ابن حيان بأبي جعفر المنصور، وذلك من حيث القوة والرجولة والصرامة والجرأة، كما أن أم كل منهما بربرية، وقد كان عبد الرحمن يجلس للناس ويسمع منهم ويحل مشاكلهم ويتوصل إليه من أراده من الناس، فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقة، وكان من عادته أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه أيضا.
بعد سقوط الدولة الأموية اشتدت ملاحقة العباسيين للأمويين؛ ففر عبد الرحمن من هذه الملاحقة وتنقل بين البلدان وهو دائم الحذر ولا يستقر خوفا من العباسيين الذين يلاحقونه في كل مكان، واجتاز فلسطين ودخل مصر، ثم انطلق متوجها نحو المغرب التي لم تكن سلطة الدولة العباسية قد استحوذت عليها تماما، وهناك لجأ إلى حمى أخواله البربر في طرابلس، واستقر في نفزة بعض الوقت ثم رحل نحو تاهرت في المغرب الأوسط.
كانت أخبار دخول بعض الأمويين الفارين إلى المغرب قد وصلت إلى والي المغرب عبد الرحمن بن حبيب، فنشط في ملاحقتهم حتى اعتقل ابني الوليد بن يزيد وقتلهما، ففر عبد الرحمن بن معاوية من جديد إلى مكناسة بصحبة مولى له يُدعى "بدر"، ثم دخل منطقة سبتة، وأقام في مدينة مليلة يخطط للعبور والدخول إلى الأندلس.
كان عبد الرحمن يأمل بتأييد كبير من أشياع البيت الأموي الموجودين في الأندلس، وفعلا أرسل مولاه "بدر" لإعلام أشياعه بقدومه، وإيجاد طريقة للاتصال بينه وبينهم، وكانت الأندلس حين اقترب منها عبد الرحمن في وضعٍ ساعد كثيرا على نجاح مخططاته؛ فهناك صراع سياسي بين والي الأندلس الرسمي: يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وحاكم الأندلس الفعلي: الصهيل بن حاتم بن شمر الضبابي زعيم القبائل المضرية هناك، إلى جانب صراع قبلي وصراع قومي بين العرب والبربر.
ولم يمضِ وقت طويل حتى أثمرت مراسلات عبد الرحمن مع الأمويين الموجودين في الأندلس، فأرسلوا له مركبا لينقله إلى الأندلس، ثم تمكنوا من نقله، ورسا المركب به في المنكب سنة 138هـ، وبسرعة أخذ عبد الرحمن يتحرك ببراعة وشجاعة، وبعد أن التف حوله الناس، انتقل إلى مدينة إشبيلية وزحف منها إلى قرطبة عاصمة الأندلس، وتمكن من الدخول إليها في عيد الأضحى من العام نفسه.
وما إن وصلت هذه المعلومات إلى والي الأندلس، يوسف بن عبد الرحمن الفهري، حتى قرر القضاء على عبد الرحمن الداخل، قبل أن تستفحل قوته ويعظم شأنه، ووقعت بين الطرفين معركة خارج قرطبة، اندحر فيها الفهري وهرب إلى غرناطة، فلحقه عبد الرحمن ونازله وانتصر عليه وتمكن من السيطرة على الأندلس.
استقر عبد الرحمن في قرطبة، فبنى المسجد الجامع، كما بنى قصرا أنفق فيه 80 ألف دينار، ودون الدواوين، وفرض الأعطية، وعقد الألوية، وجند الأخبار، ورفع العماد، وأوثق الأوتاد، فأقام الملك آلته، وأخذ السلطان عدته حتى خشيته الملوك، ودانت له بلاد الأندلس.
ويُعد عبد الرحمن الداخل أول أمير يحكم الأندلس، ويقوم بفصلها عن جسد الدولة الإسلامية فصلا سياسيا كاملا، وقد تمكن من تأسيس حكم وراثي مستقل، فبدأ بذلك عهدا جديدا في الأندلس، وبعد أن استقر له الحكم قام بقمع التمردات الداخلية، وأوجد حلا للصراع القبلي بين القيسية واليمنية، وأسهم في خلق تحولات اجتماعية واقتصادية وعسكرية؛ فقد دخل قسم كبير من الإسبان إلى الإسلام، وعالج المشاكل الزراعية، وألغى اعتماد الدولة على التوازن العسكري القبلي، فأنشأ جيشا محترفا خص ذلك للمرتزقة والعبيد وأصبحت شخصيته هي المحور الأساسي للدولة، كما طور موارد الدولة، وفرض الضرائب.
توفي عبد الرحمن الداخل بعد فترة حكم 33 سنة و4 أشهر للأندلس، وحين جاءته المنية في سنة 172هـ كان قد بلغ 59 من العمر. وهكذا قضى عبد الرحمن أكثر من نصف عمره في تحمل أعباء مسؤولية الحكم، وقد عانى كثيرا من ظروف هربه وتنقله عبر البلاد من شرق الدولة الإسلامية إلى غربها.