تحرش وعنصرية و"ما خفي أعظم".. "الجزيرة" متهمة على لسان موظفيها
"وصلنا إلى مرحلة اللمس في المكتب. يد على كتفي؛ عناق غريب؛ والأسوأ من ذلك قبلة على الخد".
الأمر يبدو أشبه بلقطة في فيلم سينمائي أو توصيف مبالغ فيه لفصل في رواية أو حتى لقطة من الواقع اليومي، لكن لا يمكن بأي حال تخيل وقوعها في بيئة عمل دون محاسبة.
المشهد مقتطف من شهادة منتجة أخبار شابة في قناة الجزيرة القطرية، في إطار تحقيق نشرته شبكة "بي بي سي" البريطانية، تضمن شهادات لموظفين سابقين وحاليين بالشبكة القطرية.
شهادات اضطر القائمون على التحقيق لتغيير أسماء أصحابها بناء على طلبهم، تكشف -حال تأكدها- كواليس من نوع مختلف لغرف أخبار تحولت لأوكار فضائح غالبا ما يقود زمامها المديرون النافذون ويكون ضحاياها من الأقل رتبة.
هوة في التصنيف المهني تمنح الجاني المفترض مجالا واسعا للتحرك في سرية اضطرارية بالنسبة للضحية المحشور في خندق اعتبارات مهنية عديدة، منها خوفه من فقدان وظيفته مصدر أمانه المادي، أو يقينه من هيمنة ثقافة الإفلات من العقاب أو حتى المحاسبة الإدارية في بيئة مهنية تقوم على العنصرية والمحاصصة، وفق شهادات من عقر الدار.
البداية
العاصفة بدأت -وفق التحقيق- من نيوزيلندا، هناك حيث تفاجأ الوسط الإعلامي باستقالة الصحفي التلفزيوني المخضرم، كمال سانتاماريا، بعد شهر فقط على تسلمه وظيفته الجديدة في أفضل تلفزيون نيوزيلندي.
لكن سرعان ما تلاشى وقع المفاجأة حين ظهرت ادعاءات بخصوص سلوكه غير اللائق في غرفة التحرير؛ وهو ما شجع زملاءه السابقين ممن عملوا معه في قناة الجزيرة التي أمضى فيها 16 عاما، على الحديث علنا.
وأشار تحقيق "بي بي سي" الذي استند إلى مقابلات مع عدد من الموظفين الحاليين والسابقين في قناة الجزيرة، ووثائق تتعلق برسائل غير ملائمة وبشكاوى من الموظفين، إلى وجود اتهامات بالتحرش الجنسي ضد سانتاماريا في غرفة الأخبار بالدوحة.
ولأنه غالبا ما يتردد ضحايا مثل هذا السلوك في الإعلان عنه، فإن الشهادات ضد سانتاماريا شجعت موظفين آخرين على التحدث بصوت عال عما تعرضوا له في غرف أخبار الشبكة القطرية.
والأسوأ من شهادات التحرش والتنمر والعنصرية هو اتهام الضحايا المفترضين للشبكة بتعزيز ثقافة تسميم أجواء العمل، حيث لا يتم في الغالب التعامل بجدية مع الشكاوى المقدمة إلى إدارة الموارد البشرية، وعادة ما يكون الفيصل في ذلك الجنس والانتماء والنفوذ.
وبحسب المصدر نفسه، أصدر سانتاماريا بيانا لم يتضمن ردا صريحا على تحقيق البي بي سي، لكنه اعترف بصحة "بعض" الادعاءات، معتذرا عن "سلوك ربما تسبب لأي شخص بالشعور بعدم الارتياح".
لكن هل يكفي اعتذار إعلامي مستقيل لتعويض الضحايا عما اختبروه من ضغط نفسي جراء تحرشه المفترض وبيئة العمل السامة التي اضطروا للتعامل معها؟
ثم إن مسؤولية الأمر -كما يراها مراقبون- لا تعود للصحفي المتحرش فرضا لوحده، بل لإدارة المؤسسة التي عمل أو يعمل فيها، وهذا ما استند إليه تحقيق البي بي سي حين أرسل قائمة مفصلة بالادعاءات الـ22 التي كشف عنها إلى الشبكة القطرية.
لكن المحطة لم تتعامل مع كل ادعاء بشكل فردي، كما تقتضيه التحقيقات الداخلية بأي مؤسسة مهما كان نشاطها، بل قالت إنها "تعتبر موظفيها في جميع أنحاء العالم العمود الفقري وأساس الشركة - سلامتهم ورفاههم أمر في غاية الأهمية".
وأضافت: "باعتبارنا منظمة دولية تضم أكثر من 95 جنسية، فإننا نسعى باستمرار لبناء بيئة عمل صحية وبناءة للجميع".
رد يرى متابعون أن فيه الكثير من التعويم ومحاولة للتعتيم والهروب من ادعاءات يدرك الجميع أنه لن يمكن بأي حال إثباتها في إطار تحقيق داخلي.
شهادات ومخاوف
شهادات يرويها موظفون حاليون وسابقون بالجزيرة تكشف الوجه الآخر لكواليس غرف الأخبار، والأهم أنها تمنح المصدح هذه المرة لضحايا لم يكن يعتد بشكواهم بين أسوار المحطة، ولا بـ"رأيهم الآخر".
"توري" كانت منتجة أخبار شابة في قناة الجزيرة، قالت إنها شعرت بأن سانتاماريا كان يعيرها انتباها خاصا، ولم يكن من الصعب على امرأة معرفة ما تريده نظرات رجل مثله.
لكن سانتاماريا لم يترك الأمر للنظرات فقط، بل مر إلى المرحلة التالية، وبعث لها برسالة عبر موقع "تويتر" قال لها فيها إنه كان متاحا إن رغبت في المعانقة، وسألها عن سبب عدم دعوته لمرافقتها في إجازتها.
وشاهدت بي بي سي أدلة على رسائل غير لائقة أرسلها سانتاماريا إلى زملائه على تويتر وواتساب والبريد الإلكتروني الداخلي لقناة الجزيرة.
ومن الرسائل، تمادي سانتاماريا إلى أكثر من ذلك، كما تقول توري: "ثم وصلنا إلى مرحلة اللمس في المكتب. يد على كتفي؛ عناق غريب؛ والأسوأ من ذلك قبلة على الخد".
وتضيف: "في أكثر من مناسبة، اضطررت للذهاب إلى الحمام لمسح لعاب كامل من على وجهي".
وقال أكثر من شخص لبي بي سي إن سانتاماريا علق على ثديي زميلته في التقديم، ويزعم العديد من الزملاء الحاليين والسابقين أن سلوك سانتاماريا كان عليه شهود في أكثر من مناسبة.
قبلة على فم رجل
موظف (ذكر) يعمل حاليا في قناة الجزيرة قال من جانبه إن سانتاماريا قبّله على فمه، ضد رغبته، في غرفة التحرير. ويُزعم أن رئيس تحرير في القناة، وهو الآن في مكانة عالية، كان شاهدا على ذلك.
وقالت منتجة شابة سابقة أخرى إن سانتاماريا قبّلها على رقبتها في أثناء العمل أمام عدة أشخاص: "شعرت بالخزي والذل وقلقت حقا من أن يعتقد الناس أنني في علاقة معه أو أحاول أن أكون - كنت لا أزال في مرحلة تكوين الصداقات، ولم أكن أعرف أي شخص في الإدارة يمكن أن أتحدث معه حول هذا الموضوع".
ووصف العديد ممن تحدثت معهم "بي بي سي" سلوك سانتاماريا بأنه وقح، لكنهم قالوا إنهم لم يبلغوا عنه أبدا، لأنهم رأوه نجم الشبكة، بينما كانوا هم في بداياتهم للتو في الشرق الأوسط.
وقالت فيونا، التي عملت بشكل مستقل مع قناة الجزيرة لمدة أربع سنوات، إن سانتاماريا حاول معانقتها في غرفة الأخبار، وعلق تعليقات جنسية وأرسل رسائل نصيّة غير لائقة - ووصفت سلوكه بأنه (منهجٌ في الاستدراج)".
حصانة!
كان ذلك السؤال الشائك في جميع ثنايا التحقيق.. كيف لإدارة محطة مماثلة أن تسمح بوقوع وتفشي مثل هذه الحالات رغم الشكاوى المقدمة في إطار رسمي أو حتى من خلال المحادثات الجانبية بين الزملاء، والتي تصب جميعها في إدارة الشبكة.
عدم التعامل بجدية مع الشكاوى جعل الجناة يتمادون لإدراكهم التام بأن صفتهم المهنية وجنسهم أو جنسيتهم تمنحهم حصانة من نوع خاص، وحماية لا يمكن اختراقها مهما ارتكبوا من جرائم.
الأسوأ أن معظم الجناة لا يدركون حجم وتبعات كلامهم وحركاتهم، وبعضهم يعتقد أن ما يفعلونه ينسجم مع الإطار الودي بالعمل كما قال سانتاماريا في بيانه التوضيحي، وقد تنسجم رؤاهم بشكل أو بآخر مع نظرة مديرين برتب أعلى.
وبإدراك الجميع أن النافذين لا تطولهم المحاسبة، باتت الشكوى في حد ذاتها وبالا على المدعي وليس على المدعى عليه، وهذا ما جعل الكثير من الضحايا يتخلون عن حقهم في الشكوى، ويجبرون أصواتهم على عدم تجاوز جدران غرفهم أو مكاتبهم على الأكثر.
ومع الوقت، تجاوزت المزاعم سانتاماريا وغرف الأخبار، لكن المخاوف من فقدان العمل تجبر الكثيرين على ملازمة الصمت بانتظار توديع الغرف المظلمة إلى وظيفة أخرى، أو تبني خيار الصمت الدائم خوفا من أن تمتد أذرع مديري الجزيرة لتؤثر سلبا على مسارهم المهني حتى في مؤسسات أخرى.
وما بين الصمت والكلام، يدوي أزيز شهادات تحقيق البي بي سي بين جدران شبكة الجزيرة، على أمل أن يرتد في شكل تحقيقات داخلية تنصف الضحايا المفترضين، وتخلص بيئة العمل من سموم تكبلها على مر السنوات.
شهادات يقول البعض إن ما خفي منها كان أعظم، وأن ما لم يرد فيها أسوأ مما نشر، ولو كان للضحايا الأمان الكافي للكشف عما تعرضوا له، فسينفجر البارود في غرف أخبار المحطة القطرية، وقد يكتب ذلك إما النهاية وإما بداية مختلفة.