سيكون على الحركات المحلية أو العالمية الساعية لتعزيز الممارسة الديموقراطية في كل أنحاء العالم أن تواجه أياماً بل شهوراً وربما سنوات صعبة
سيكون على الحركات المحلية أو العالمية الساعية لتعزيز الممارسة الديموقراطية في كل أنحاء العالم أن تواجه أياماً بل شهوراً وربما سنوات صعبة بعد المستوى المتدهور أخلاقياً وسياسياً وفكرياً الذي شهدته وتشهده حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية الجارية.
إذا جاز التعبير يمكن القول إن الأخطر والأكثر أذىً في التنافس بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون كان إعلان ترامب غير المسبوق والمذهل عدم إيمانه بنزاهة الآلية التي ستجري فيها الانتخابات.
إذا كانت الديموقراطية بِناءً مرتفعَ الطبقات، فإن الاعتراف المتبادل بين المواطنين ونخبهم بنزاهة الانتخابات هو الطبقة تحت الأرضية في هذه العمارة. تحت الأرض هو الأساس الذي تتحول فيه الثقافة العامة إلى العنصر المادي الملموس. الطابق تحت الأرضي الذي يتكرّس بل يتجسّد فيه "العقد الاجتماعي" للأمة - الدولة.
لعب دونالد ترامب بقدس أقداس الممارسة بل الثقافة الديموقراطية الممأسَسة عندما أعلن أنه لن يعترف بنتائج الانتخابات.
تأثير هذا الموقف مدمِّر خارج أميركا والغرب أكثر مما هو داخلهما. وإذا جاءت النتيجة النهائية لغير صالحه، وهذا مرجّح أكثر فأكثر، وأعلن ترامب عدم اعترافه بالنتيجة، سيكون ذلك إشارة لانطلاق كل قوى الثقافة غير الديموقراطية في العالمين الثاني والثالث بما سيفتح بحد ذاته "زمناً ثقافيا سياسياً" في العالم غير الغربي، وربما بعض الغربي من الاضطراب الفكري والسياسي. فالقيمة الثقافية الديموقراطية تحولت، كما لم يحصل في السابق، ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي، إلى نوع من "نهاية التاريخ" من حيث انتصار الديموقراطية الليبرالية في العالم.
قد يرد "رفيق يساري" من تشيلي والأرجنتين إلى بيروت واسطنبول أن هذا كان انتصاراً أكيداً لمفهوم فكري واحد للديموقراطية. بينما هناك مفاهيم أخرى. صحيح. ولكنّ المفاهيم "الأُخرى" لم تعد تصنع التاريخ منذ "نهاية التاريخ" بمعناه الفوكويامي.
لهذا هل يفتح هذا المرشح المسمى دونالد ترامب، المرشح الوقح، اليميني المتطرف، المبتذَل، رجل الأعمال المتهرب من الضرائب، ودفع الضريبة هو الأقنوم المقدس، المقدس فعلاً، في الديموقراطيات الغربية أو غير الغربية على النمط الغربي... هل يفتح كوة، بل أول كوة في "نهاية التاريخ" منذ حصلت هذه "النهاية" في الثقافة العالمية والمترافقة مع انتصار الحضارة الغربية الحاسم في إسقاط الاتحاد السوفياتي؟
بهذا المعنى فإن دونالد ترامب أو الترامبية، هو هزة عميقة داخل أقوى وأعظم دولة في العالم، وهما قوة وعظمة مرشحان للاستمرار لعقود بل لكل القرن الحادي والعشرين.
هل دونالد ترامب ثورة ثقافية في المنظومة الغربية حتى بالمعنى المبتذل أو ثورة مبتذلة ولكنها ثورة؟ إنه رجل أعمال من عمالقة المؤسسات العقارية الأميركية. هو في قلب النظام الاقتصادي الأميركي وعبره العالم. ولكن أمثال هؤلاء كانوا قلة في النخبة السياسية الحاكمة بسبب الآليات الانتخابية. وهذا عيّنة عن شبه الانفصال "الوظيفي" وليس المصلحي القائم بين النخبة الاقتصادية والنخبة السياسية. لكن على مستوى المصالح، فالشهير عن السياسة الأميركية ارتباط أو توزُّعُ ارتباطِ السياسيين أو معظمهم بلوبيات الشركات النفطية والعسكرية والمالية (وول سْتريت) وغيرها، كذلك بلوبي انتشار السلاح الفردي في الداخل الأميركي. ويحتل صناعيون ورجال أعمال مواقع حُكَّامٍ في بعض الولايات كذلك مناصب أخرى ولكن القاعدة هي وجود نخبة سياسية مدنية منتخبة من غير رجال الأعمال. دخول ترامب على الترشيح محاولة بارزة لانتقال رجل الأعمال إلى الدور السياسي المباشر في ديموقراطية أنتجت رئيساً - جنرالاً كأيزنهاور أنهى عهده بخطاب شهير فاضح ضد "المجمع الصناعي العسكري" الأميركي. وبرئيس آت من هوليوود هو رونالد ريغان والذروة برئيس أسود، واليوم على الأرجح قد يأتي بأول رئيسة امرأة متهمة بدورها الارتباط بمصالح بنوك وشركات "وول ستريت". النموذجان الأخيران طبعاً لا يحبهما ترامب، وهو في إحدى المرات أشاد بالجنرال ماك آرثر ذي التاريخ الهام والإشكالي في الحياة العامة الأميركية والجنرال الذي أعفي من منصبه في عهد الرئيس ترومان بسبب تهمة عدم تنفيذ أوامر الرئيس. كما أنه مرة أخرى أشاد بالرئيس أيزنهاور لترحيله مليوناً ونصف مليون مهاجر من الأراضي الأميركية. (الكثير من هؤلاء كانت الحكومة غضّت النظر عن دخولهم غير الشرعي بسبب حاجتها إلى العمالة الرخيصة).
تسمع فقط في الدول المتخلفة عن عدم اعتراف بنتائج الانتخابات لأن النظام السياسي غير راسخ. هذا هو الجديد الذي تقوم به الترامبية. هذا الموقف التدميري سمح أيضاً بظهور أصوات تدعو إلى إعادة النظر بفكرة المناظرة بين المرشّحين وهي الفكرة التي تعتبر، وهي كذلك، الإضافةَ النوعية التي قدّمتها الديموقراطية الأميركية في القرن العشرين. لا بل ذهب التساؤل بين بعض المحللين الأميركيين في مجال الانترنت إلى التحذير من إمكان الخوف من قرصنة الانترنت الروسية أن يدمِّر إيمانَ الأميركي العادي بالانتخابات؟ كما ذهب جيف ستاين في "فورين بوليسي" في السادس عشر من الشهر الجاري.
لذلك فإن خطورة "الثورة" الترامبية وردود الأفعال عليها أنها قد توقظ كل "جحافل" الوعي المضاد للديموقراطية في العالم، "الجحافل" ونخبُها التي ستكون، أو هي باشرت أن تكون، سعيدة، بهذا السندروم.
ديناميكية الصراع بين الثقافة الديموقراطية والثقافة التسلطية هي ديناميكية أساسية في عالم اليوم. من ميانمار العائدة إلى الديموقراطية، إلى تركيا المغادِرة لها، إلى العالم العربي القلق ثقافياً ودينياً ووجودياً بين أيديولوجيتَي الدمقرطة والتسلط، إلى إفريقيا حيث لا تزال تأتي بعض الحكومات صباحا وترحل بعد الظهر...
هل الصراع بين كلينتون وترامب هو الصراع بين أميركا جديدة وأميركا قديمة كما كتبت ماتلين ديكر ونُواه بيرمن في "لوس انجليس تايم"، أم هو امتزاج لحظتين مبتذلة مع ترامب وملتبسة - مضيئة في الآن نفسه مع كلينتون؟
لا أشك أن أميركا والغرب يستطيعان عقلنةَ وتجاوزَ ظاهرة ترامب في النتيجة. المهم في الخارج. أقصد بقية عالم صار واحداً ويفصله عن بعضه داخلٌ وخارج كلاهما أميركي.
نقلا عن / النهار
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة