مسارات المشهد الجزائري بين الجيش والحراك الشعبي
في سرعة كبيرة تحول الحراك من أغلبيّة صامتة إلى الرقم الأصعب على الساحة السياسيّة في الجزائر
شكّل الشارع الجزائري إلى يوم 22 فبراير/شباط 2019 منذ استقلال البلاد عام 1954، عاملا خارج الحسابات السياسيّة بمفهوم التأثير المباشر والفاعل.
هذه الجماهير (في غالبيتها) كانت إمّا عازفة عن الفعل السياسي، ذات هموم معيشيّة مباشرة في أقصاها، أو منخرطة ضمن أحزاب ونقابات وجمعيات تسير في ركاب السلطة وتخدم أجندتها، فقط على مستوى صناعة صورة «الشعب المتماهي» بالمطلق مع «قيادة رشيدة».
مع أقلية استطاعت تجاوز رفضها الباطن إلى التراوح بين إعلان الاختلاف الهيّن أحيانًا، إلى المجاهرة المعلنة والصريحة بالطعن في شرعية السلطة الماسكة لمقاليد البلاد.
حتّى الهبّات أو الانتفاضات، التي تمّت منذ الاستقلال، المتمثلة أساسًا في الخروج إلى الشارع، ومن ثمّة الاشتباك مع قوّات الأمن، والجيش أحيانًا، فكانت إمّا جزءا من «حراك جهوي (مناطقي أو إقليمي)»، مثل ما وقع في منطقة القبائل منذ تسعينيات القرن الماضي.
راوحت حينها المطالب بين حقوق ثقافيّة، يشوبهما غموض شديد في محتواها السياسي، أو هي محدودة في الزمن مثلما كان في أكتوبر/تشرين الثاني 1988، حين خرج الناس إلى الشارع، وسقط منهم الكثير.
دون أن ننسى بعض المظاهرات هنا وهناك في بعض القرى والمدن الصغيرة للمطالبة بتحسين ظروف الحياة، لا علاقة لها البتّة بأيّ مطالب سياسيّة جامعة ومتجاوزة للأبعاد الجهويّة. هذا دون نسيان ما تعمد إليه بعض الجهات داخل السلطة من تحريك للشارع واستغلاله، بغية الإطاحة بالمنافسين أو على الأقل دفعهم للتراجع.
لم يسبق أن قامت «حركة جماهيريّة» بمثل هذا العمق الشعبي، أيّ أعداد المشاركين التي ارتفعت مع مرّ الأسابيع، وكذلك بمثل هذا التنظيم، رغم عدم وجود قيادة تمسك القرار وتسيّر الجماهير، وبمثل هذه السلميّة رغم الكمّ الهائل من التوتّر الكامن في أعماق المجتمع، كذلك بمثل هذا التوافق حول الشعارات المرفوعة على مرّ الأسابيع واختلاف الجهات، المتجاوزة للصعوبات الاقتصاديّة والمطالب الاجتماعيّة.
ولا ننسى مشاركة فئات عمريّة من أطفال وشيوخ ونساء، لم تكن معنيّة أصلا ـ في السابق ـ بالخروج إلى الشارع سواء بحكم تقاليد المجتمع، التي لم تعتد مثل هذه الأشكال النضاليّة، أو انحصار الفئة المعنيّة بهذه التحركات على الطبقة المسيّسة وكذلك فئة الشباب الباحث عن فضاء يمكّنه من توسيع مجاله الحيوي، وإن كان بصفة مؤقتة.
الحراك الشعبي.. الرقم الأصعب
بفعل الفراغ الذي عاشه الشارع، سواء حرمانه من هذا الفضاء العام بحكم «قانون 2001» الذي يمنع التظاهر ويجرّمه، أو احتكار النخب القائمة للفعل السياسي، أو اعتبار «الجماهير» مجرّد وقود، خاصّة أثناء الحملات الانتخابيّة، مثّل نزول يوم 22 فبراير/شباط نوعًا من «المعجزة» التي فاجأت الجميع، سواء السياسيين، حكمًا ومعارضة، وحتّى الشارع ذاته.
علمًا بأنّ جميع الشواهد، تؤكد القطيعة بل الانفصام الحاصل عموديّا، بين نخبة سياسيّة، متراوحة بين سلطة مستفردة بالقرار، ومعارضات، تفتقد أيّ استراتيجيّة بالمفهوم العلمي للكلمة، تمكنها من التأسيس لمقاربة تجعل منها ندّا للنظام أوّلا، وثانيا من أن تشكّل البديل الموضوعي لنظام لا يحمل أيّ أيديولوجيّة، سوى الاستفراد بالسلطة وممارسة إقصاء ممنهج واستبعاد كلّ المختلفين معه مهما كانت درجة الاختلاف.
وجب التذكير، كذلك، بالأرقام والإحصائيات التي قدّمتها وزارة الداخليّة عن المشاركة في الانتخابات بشتّى أصنافها في السنوات الأخيرة، للوقوف ليس فقط على تراجع أعداد المقترعين، بل كذلك في عدد الأوراق الملغاة، ممّا يعني تفشّي ما يشبه الاستياء الشامل لدى عموم الشعب من آلية الاقتراع وما تؤسّس له من سياسية وما ينتج من نخب.
لتعيد هذه المظاهرات اهتمام الشارع بالسياسة، بل ـ وهنا الأهميّة ـ اعتبار ذاته (أيّ الشارع) صاحب اليد العُليا والشرعيّة الأرقى، ممّا يلغي بل ينسف «العقد الاجتماعي» الرابط مع «النخب الحاكمة» والتي على أساسها، قامت وتقوم الشرعيّة السياسيّة للنظام، منذ استقلال البلاد عن فرنسا بتاريخ 05 يوليو/تموز 1962.
في سرعة كبيرة، بل وغريبة تحوّل الحراك، من أغلبيّة صامتة ومستقيلة بل معرضة عن أيّ نشاط سياسي من باب الرفض والازدراء، إلى الرقم الأصعب على الساحة السياسيّة في الجزائر، بعد أن صارت السلطة الحاكمة وكذلك المعارضة ليس فقط تعدّل أوتارها على وقع الشارع، بل جاءت «رسائل بوتفليقة» وجميع قرارات المعارضة مجرّد «ردّ فعل» أمام «فعل الشارع».
رغم الانقلاب الحاصل في المشهد السياسي بنيويًا وكذلك وظيفيًا، سقط الحراك منذ اللحظة الأولى في طوباويّة جعلت هذا العمق الشعبي يعتبر أنّ عليه أن يقول «كنْ»، ليستجيب الجميع، بمفهوم الحتميّة الإلهية، في تناسٍ أو هو التجاوز إن لم يكن الرفض والنفي، للجدليّة التي قامت عليها الممارسة السياسيّة منذ الاستقلال، إن لم نقل منذ انطلاق الثورة سنة 1954.
بل يعلن المشاركون في الحراك في توافق يكاد يكون إجماعا لا نشاز فيه، عن رفض للطبقة الحاكمة بكاملها، حين تحوّل شعار باللسان الدارج في الجزائر «يروحو قَعْ» أي "يرحلون جميعًا" إلى ما يشبه «الورقة الحمراء» في كرة القدم، ليس فقط في وجه الوجوه التي أثّثت المشهد السياسي، بل تجاه المعارضة.
وطرد عديد من رموز المعارضة، بيد أنّ هذا الشارع مهووس حدّ المرض بما يمكن أن نعتبرها «طهرانيّة» لا يريدها "العمق الشعبي" أن تتلوّث من قبل "جماعة السلطة" أو أن يشوبها شكّ بمشاركة أحزاب المعارضة ورموزها.
قياسًا بالفترة الزمنيّة المقطوعة، يمكن الجزم بأنّ الحراك حقّق استراتيجيا المُراد، بدءا بكسر، بل التدمير المفاجئ لـ «قانون منع التظاهر» الصادر سنة 2001، وكذلك ذلك الإحساس بالثقة، حين صارت السلطة والمعارضة والنقابات والتجمعات المهنيّة، وحتّى الجيش الوطني الشعبي، ليس فقط يثمنون خطواته ويباركون كلّ خروج، بل ـ وهنا الأهميّة ـ كلّ يدّعي وصلا به، وأنّه «الابن الشرعي» له.
عجز ثلاثي
هذا الحراك، ورغم الارتفاع المتزايد في عدد من ينزل إلى الشارع كلّ يوم، يبقى في حالة عجز كامل وشلل تام، عن التحوّل من «طاقة كامنة» إلى «قوّة فاعلة» بمعنى إحداث الفعل المباشر والتأثير الفعلي، في المشهد الماثل أمامه، لانعدام القنوات السياسيّة وكذلك النقابيّة وحتى ضمن المجتمع المدني، القادرة على هضم هذه الطاقة الهائلة وتفعيلها على مستويين:
أوّلا: الاستقواء بهذه الطاقة وتفعيلها ضمن المحرّكات السياسية والنقابيّة ومنظمات المجتمع المدني، ممّا يرفع دون أدنى شكّ من منسوب أدائها، ويحسنّه كمًّا ونوعًا، ويجعلها شريكًا فاعلا على الساحة السياسيّة،
ثانيا: ضرورة استيعاب هذه «الطاقة الهادرة» وعدم تركها في الشارع، لأنّ هذه الجماهير، في حال عجزت الآلة السياسية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني عن استيعابها، ستبقى خارج «المنظومة» أي أنّها ستكون أقرب إلى «الأفكار المتشدّدة» مهما تكن الأيديولوجيّة التي سيتغطّى بها هذا الفريق أو ذاك.
العجز عن بلورة صوت جامع ومتفق بشأنه يشارك في صياغة القرار من قبل الحراك، قابله عجز من قبل السلطة عن بلورة صوت مقنع أو هو مقبول.
ومثّلت «رسائل بوتفليقة» الملقاة من قبل غيره، الردّ الوحيد، عن رئيس يخاطب شعبه من وراء حجاب لم يعد بإمكانه تأمين الحدّ الأدنى من الصورة الضامنة لوجود «دولة» في حدودها الدنيا في الجزائر.
كما ظهر عجز المعارضة عن التحوّل إلى الوسيط القادر على تفعيل «طاقة» الحراك الكامنة إلى «فعل» سياسي مباشر، حين سقطت جميعها أو أغلبها منذ يوم 22 فبراير/شباط، منذ بدء التظاهر، في «فخّ بين المنزلتين»، أيّ أنها رفضت النزول إلى الشارع، بمعنى تبنّي «القطيعة» التي أعلنها الشارع مع النظام، وثانيا، عاجزة عن صياغة خطاب فاعل وفعّال، تجاه السلطة وإجبارها على التنازل أمام طلبات الشارع أو على الأقلّ تقديم تنازلات تذهب بالوضع إلى التهدئة.
هو عجز ثلاثي ومتبادل، إن لم نقل مشترك: عجز الحراك عن تأمين صوت جامع، وعجز «منظومة بوتفليقة» عن تأمين صوت مسموع، في مقابل عجز المعارضة عن بلورة صوت جامع ومرتفع وفاعل.
المعارضة في الجزائر طيف أو هي قوس قزح بأتمّ معنى الكلمة: إذا استثنيا أحزاب «الموالاة» كامل الأحزاب الأخرى عاجزة عن إيجاد أرضيّة مشتركة، وإن كان على مستوى «البيان» بل هي منقسمة حتّى ضمن «العائلة الأيديولوجيّة الواحدة».
عملت المعارضة، منذ تأكّد للجميع تحوّل الحراك إلى «الرقم الصعب» الذي يصعب بل يستحيل تجاوزه، على اختراع دور "الوسيط" أو "الأمين" على "مطالب الشعب" دون قدرة على القفز بالكامل إلى الشارع والتماهي معه، أو دون قبول من قبل هذا الشارع أو قدرته على تجاوز ماضي هذه الطبقة السياسيّة، وإن كان الرفض القطعي يخصّ رموز النظام ورجاله الأبرز.
الجيش صاحب اليد العليا
أمام انسداد الأفق بين هذا العجز الثلاثي وخطورة تأبيد الأزمة بل تحوّل خطوط الاختلاف إلى جبهات صراع، وأساسًا عجز المعارضة عن التحوّل إلى أداة الحراك في إحداث التحوّلات المطلوبة، تحرّك «الجيش الوطني الشعبي» من دور المشاهد والمراقب والمتفرّج، الذي اكتفى أوّل الأمر بإعلان «النوايا» وتقديم «قراءة» للمشهد، إلى صاحب اليد العليا، بل المقرّر إن لم نقل الفاعل الأوحد بل الذي يترقب الجميع ويراقب حركاته وسكناته.
من يقرأ كلّ ما صدر عن أحمد قايد صالح، نائب وزير الدفاع والقائد الأعلى للقوّات المسلحة في الجزائر، يلاحظ نزوحا تدريجيا وبطيئا من «إعلان النوايا» إلى «تقرير مصير البلاد»، أيّ من «التذكير» بما هو معلوم من واجبات هذا الجيش الوطني الشعبي، وفق ما هو «الدستور» وكذلك ما هو «التاريخ الثوري» لهذا الجيش سليل «جيش التحرير الوطني»، إلى تحمّل واجب مزدوج، بدءا بلعب دور «حماية البلاد» ونهاية بواجب «التكفّل» بما هي «المطالب المشروعة» الصادرة عن العمق الشعبي.
أمام عجز الطبقة السياسيّة، بشقيها الحاكم والمعارض، وأمام وقوف الشارع عند منتهى إمكانياته، جاءت قرارات الجيش ليس فقط متميّزة على مستوى الوضوح في تشخيص المشهد، بإطلاق وصف «العصابة» على محيط الرئيس بوتفليقة، بل كذلك الفعل الناجز بدفع بوتفليقة إلى الاستقالة أقلّ من ساعة بعد إذاعة هذا التشخيص، وأساسًا وما هو أهمّ تنحية البشير طرطاق المكلف في رئاسة الجمهورية بالتنسيق بين أجهزة المخابرات، واستعادة أجهزة الاستخبارات جميعها، بعد أن كانت ملحقة برئاسة الجمهوريّة.
إعلان القايد صالح أنّ المرجعيّة الدستوريّة دون غيرها تمثّل الحلّ المناسب، وكذلك تأكيده على ثلاثيّة المواد 102 – 07 – 08، من الدستور، يجعل منه صاحب الخطاب الأعلى وكذلك «القاضي» المكلّف بتنفيذ أحكام أصدرها الحراك الشعبي، ومن ثمّة يمكن الجزم أنّه بقدر إصرار الشعب على مطالبه، بقدر ما هي الكرة بكاملها في مرمى الشعب.
** نصر الدين بن حديد صحفي وكاتب جزائري
aXA6IDE4LjIxOC4zOC42NyA= جزيرة ام اند امز