وثائق جديدة تكشف جرائم فرنسية قديمة بالجزائر
بشكل متسارع، تساقطت حقائق جديدة عن الماضي الاستعماري بالجزائر الذي دام 132 سنة كاملة.
حقائق وإن كانت على شكل وثائق تاريخية وشهادات حية، إلا أن بعض المتابعين استغربوا تسريبها في هذا الوقت بالذات، الذي يأتي قبل أيام من زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للجزائر، وكذا بعد عودة التقارب بين العاصمتين بعد نحو 3 أعوام من الجفاء والقطيعة.
- قبل زيارة ماكرون.. الجزائر ترفع "لاءات الذاكرة" بوجه باريس
- يونيو المقبل.. ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي بالجزائر
إلا أن مهتمين بالعلاقات بين الجزائر وفرنسا، عدوها "عربون حسن نوايا" من باريس تجاه الجزائر في رفع السرية عن الماضي الاستعماري الفرنسي بالجزائر (1830 – 1962).
وعاد ملف الذاكرة الذي لطالما سمم العلاقات بين البلدين، ليطفو مجددا، لكن هذه المرة من "الرئاسة الفرنسية" التي رفعت السرية عن وثيقتين وصفهما الإعلام الفرنسي بـ"الحساسة"، أشارت إلى تورط الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول في "التستر على جرائم ارتكبت في حق جزائريين تظاهروا مطالبين بالاستقلال في باريس بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961" على ضفاف نهار "السين".
الوثيقتان نشرت تفاصيلهما صحيفة "ميديا بارت" الفرنسية تحت عنوان "مجازر 17 أكتوبر 1961.. الأدلة التي كان يعرفها شارل ديجول"، أشارت إلى طريقة تعامل الشرطة والجيش الفرنسييْن مع المتظاهرين السلميين الجزائريين بـ"قسوة همجية".
"ورطة ديجول"
ووفق ما أوردته الصحيفة الفرنسية عن الوثيقتين فقد كان ديجول "على علم بطريقة تعامل الأجهزة الأمنية مع المتظاهرين الجزائريين، لكنه لم يتخذ الإجراءات العقابية التي ينص عليها القانون الفرنسي".
إلا أن أنها عادت – وثائق الصحيفة – للقول إن الرئيس الفرنسي الأسبق "حرر رسالة رئاسية طالب فيها بمحاكمة الجناة عن المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 400 جزائري"، والذي قتلوا غرقاً في نهر "السين" وبالرصاص الحي.
ولفتت الصحيفة ذاتها إلى أنه استنادا إلى الوثيقتين فقد كانت رسالة "ديجول" "مجرد طلب بخط يده لمعاقبة الجناة"، كما طالب وزير داخليته آنذاك روجي فراي "العمل لمواجهة الانحرافات والتجاوزات التي وقعت فيها الأجهزة الأمنية الفرنسية"، فيما لم يتبعها "أي متابعة قضائية أو إدانة أي عنصر أمني بمن فيهم مدير الشرطة موريس بابون" وفق ما ورد في الوثيقتين.
وأقرت الصحيفة الفرنسية واسعة الانتشار بأن مجزرة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1962 "لا تزال تطارد الدولة الفرنسية إلى يومنا هذا، لأنها بقيت دون عقاب".
صحيفة "ميديا بارت" الفرنسية أشارت أيضا إلى رأي المدعي العام الفرنسي مما ورد في الوثيقتين، حيث "حذر من خطورة الإجراءات القانونية ضد المتورطين في مجازر نهر السين بناء على الوثيقتين المسربتين".
وبرر المدعي الفرنسي رأيه – بحسب الصحيفة – إلى أن الوثيقة الأولى "مذكرة موقعة من برنار تريكو مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول بعد 11 يوماً من قمع مظاهرات الجزائريين في باريس".
وورد في مذكرة المستشار الرئاسي الفرنسي: "أبلغني مدير مكتب حافظ الأختام أن المدعي العام لمحكمة استئناف باريس والمدعي العام بمحكمة السين، جاءا لتحذيري من خطورة الإجراءات القانونية المتبعة بعد وفاة عدد من المسلمين (الجزائريين) الذين عثر على جثثهم بعد المظاهرات الأخيرة".
أما الوثيقة الثانية المسربة فكانت مراسلة أمنية موجهة لـ"ديجول" أقرت بـ"اكتشاف جثث عدد من المسلمين الجزائريين في منطقة باريس منذ 22 أكتوبر/تشرين الأول 1961"، كما طالبت من الرئيس الفرنسي الأسبق "تزويد القضاء بعناصر كافية لدعم المتابعة".
وورد فيها: "وأحيط رئيس الدولة علما بأن الادعاء ليست لديه عناصر كافية لدعم المتابعة، والسؤال الذي يعرض نفسه على الحكومة هو، هل سنكتفي بترك الأمور تأخذ مجراها، وفي هذه الحالة من المحتمل أن تتعثر، أم أن على وزير العدل ووزير الداخلية إبلاغ القضاة وضباط الشرطة القضائية المختصة أن الحكومة تريد أن يلقى الضوء على الموضوع".
ورد بيرنار تريكو مستشار ديجول على البرقية بالقول: "يبدو من المهم للغاية أن تتخذ الحكومة موقفاً في هذا الشأن، مع السعي في نفس الوقت لتجنب الفضيحة قدر الإمكان، وذلك ليعرف جميع المعنيين أن هناك أشياء لا ينبغي القيام بها وأنه لا يسمح لهم بها".
وتابع: "أما إذا تصرفنا بطريقة أخرى، سنبدو كأننا نسمح بأن تطور الشرطة أساليب تم الكشف عن خطورتها الشديدة في السنوات الأخيرة في تشكيلات أخرى".
المستشار الرئيسي بدوره بعث بمراسلة لديجول – وفق الصحيفة الفرنسية دائما – قال له فيها: "هل يوافق على أن يتم التعبير عن وجهة النظر التي تم توضيحها للتو للوزراء المعنيين".
ورد عليه الرئيس الفرنسي الأسبق بضرورة الإسراع في محاكمة المجرمين وتحميل وزير الداخلية آنذاك المسؤولية الكاملة عن تصرفات الأجهزة الأمنية في باريس "لكن دون التفريط في توفير الحماية لها".
الثلاثاء الأسود
وللمرة 57 على التوالي، أعادت الجزائر فتح جراح واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي ضد الجزائريين، وهو اليوم الذي بات يعرف في الجزائر بعد استقلالها في 5 يوليو 1962 بـ "اليوم الوطني للهجرة".
الثلاثاء 17 أكتوبر 1961 كان واحدا من "الأيام السود" التي لا تعد ولا تحصى في تاريخ الجزائر مع الاستعمار الفرنسي، يوم قضت فيه فرنسا على قرابة 400 جزائري ورمت بجثثهم في نهر "السين" الذي يقطع باريس، فيما اعتقلت 12 ألف منهم وأخضعتهم لأنواع مختلفة من التعذيب، بعد أن خرج 65 ألف متظاهر جزائري إلى شوارع العاصمة الفرنسية باريس للمطالبة سلمياً باستقلال بلادهم، فكان رد الشرطة الفرنسية "ارتكابها مذبحة جديدة" أضافتها إلى سجلها المليء بالمجازر أثناء استعمارها للجزائر الذي دام 132 سنة (1830 – 1962).
في ذلك اليوم الأسود عند الجزائريين، وبعد خروج آلاف المتظاهرين في باريس، "أيقنت الحكومة الفرنسية أن الثورة الجزائرية امتدت إلى أراضيها" بحسب ما جاء في كثير من المراجع التاريخية، وشكل خروج 65 ألف جزائري إلى شوارع باريس "حالة من الهلع لحكومة شارل ديغول".
لم تجد حينها فرنسا إلا التعامل مع المتظاهرين بالطريقة ذاتها التي واجهت بها الجزائريين طوال أزيد من قرن، حيث أعطى رئيس شرطة باريس "موريس بابون" أوامر لقوات الأمن بمقع المظاهرة السلمية "بكل الوسائل".
لتتحول معها شوارع باريس إلى "بِرك من الدماء بعد أن قتلتهم بالرصاص الحي، وساحة لاعتقال آلاف الجزائريين"، فيما رمت بغالبية جثث الضحايا في نهر السين "كمحاولة لإخفاء جريمتها" وفق شهادات مؤرخين فرنسيين وجزائريين، وناجين من تلك المذبحة.
وبعد نيل الجزائر استقلالها عام 1962، واصلت السلطات الفرنسية إنكارها اقتراف مذبحة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، واكتفت عام 1998 "باعترافها بقتل 40 شخصاً فقط".