الجزائر.. ماذا بقي من ثورة المليون شهيد بعد 63 عاما؟
مع كل احتفال بتضحيات وبطولات الجزائريين خلال مسيرة تحررهم من الاحتلال يظهر السؤال عن سبب غياب الكثير منها عن ذاكرة الأجيال الجديدة
في مثل هذا اليوم من عام 1954، اندلعت ثورة التحرير الجزائرية التي قدمت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد لتحيا الأجيال القادمة حرة على أرضها، ومع الذكرى الـ 63 تمتزج فرحة النصر مع الحزن على غياب معظم البطولات عن ذاكرة الأجيال الحالية.
فبعد أشهر من التنسيق السري، اتفق مجاهدو الجزائر على ساعة الصفر، حين انطلقت أول رصاصة في 1 نوفمبر/تشرين الثاني بمنطقة الأوراس، وسرعان ما امتد لهيب الثورة إلى بقية المدن.
1200 ثائر فقط من بدأت بهم ثورة الجزائر، مسلحين بقنابل تقليدية ببنادق صيد وأخرى أوتوماتيكية من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وحتى السكاكين والفؤوس والعصي، تقدرها الشهادات والدراسات التاريخية بـ 400 قطعة سلاح.
ورغم الإمكانيات المحدودة، إلا أن ثوار الجزائر استهدفوا في توقيت واحد ومناطق مختلفة المراكز الحساسة للمستعمر من ثكنات عسكرية، مخازن الأسلحة، مخافر الشرطة والدرك، مزارع المستوطنين الذين نهبوا أراضي الجزائريين بالقوة، شبكات الكهرباء والهاتف، وتمكنوا حتى من نسف طرق وجسور لعرقلة جيش الاحتلال.
هجمات مباغتة ومحددة الأهداف بدقة، بلغت في ليلة واحدة 80 عملية خلفت عددا من القتلى والجرحى في صفوف المستعمر، تتحفظ فرنسا إلى يومنا هذا عن ذكر الرقم.
ثورة حشدت فرنسا لوأدها مقاتلين من 21 دولة إفريقية، ولم يكفها ذلك، فاستعانت بقوات حلف شمال الأطلسي، فكانت حربا بين أعتق أنواع الأسلحة وأحدثها، وبين حق وباطل، مارست قبلها وأثناءها فرنسا كل أنواع الإرهاب، وتنافس جنرالاتها وساستها على من يقتل وينكل أكثر.
ومع كل تقتيل وتنكيل وتهجير زادت عزيمة الجزائريين لتحرير بلدهم مستقوين بمقولة أحد شهدائهم "العربي ين مهيدي": "إذا ما استشهدنا دافعوا عن أرواحنا، نحن خلقنا من أجل أن نموت لكي تخلفنا أجيال تكمل المسيرة".
بن مهيدي الذي لم تفارقه الابتسامة وهو يُقتاد إلى حبل المشنقة، جعل واحدا من سفاحي فرنسا الجنرال "بيجار" يقف أمام "الجثة الطاهرة" للشهيد بن مهيدي "ويؤدي التحية العسكرية له".
ثم قال قولته الشهيرة: "لو أن لي ثلاثة من أمثال العربي بن مهيدي لغزوت العالم"، بعد أن استعمل معه كل أنواع التعذيب لاستنطاقه والكشف عن أماكن المجاهدين، لكنه عجز أن يأخذ منه حرفا واحدا.
بيان 1954
يعتبر بيان الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 أول وثيقة رسمية للثورة، حددت فيه قيادة الثورة المبادئ والوسائل والأهداف.
الدعم العربي
قدمت دول عربية دعما "لامشروطا" للثورة منذ انطلاقتها، ماديا ودبلوماسيا وتسليحيا ومعنويا، وساعدوا الجزائر على تدويل قضيتها.
ففي عام 1955 نجح الزعيم المصري جمال عبد الناصر في تدويل القضية الجزائرية بعد مشاركة وفد جبهة التحرير الوطني في مؤتمر باندونج، مع التزام الدول المشاركة بدعم الثورة واعترافهم بشرعية القضية الجزائرية.
كما دعمت القاهرة الثورة بالسلاح والدبلوماسية واحتضان قادة الثورة، وهي المواقف التي جَرَّت على مصر عدوانا ثلاثيا فرنسيا بريطانيا إسرائيليا.
دور المملكة العربية السعودية في دعم الثورة كان مفصليا أيضا في فضح فرنسا عالميا، حيث كانت المملكة أول بلد يطلب تسجيل القضية الجزائرية في مجلس الأمن كما ذكر وزير الخارجية الجزائري الأسبق، أحمد طالب الإبراهيمي.
كذلك كانت السعودية أول بلد عربي يقدم دعما ماليا للثورة الجزائرية، كما أكد الكاتب الجزائري آنذاك "توفيق المدني"، إضافة إلى قطعها علاقاتها مع فرنسا، وتخصيص شعار الحج للجزائر عام 1957.
المحرقة
ما ارتكبته فرنسا فترة الثورة وخلال احتلالها الجزائر منذ 1830، لم يكن مجرد إرهاب، أو مجازر، بل "محرقة" في حق شعب أعزل، تؤكدها الوثائق، وحتى الفرنسيون أنفسهم من مؤرخين ومساندين للثورة قالوا إنهم يخجلون من تاريخ بلدهم.
ومن بين هؤلاء الكاتب الفرنسي "جان بول سارتر" الذي كرس حياته ومقالاته لدعم الثورة الجزائرية، حيث كتب في إحدى مقالاته "إن الاصلاح الحقيقي سيتحقق من غير شك، لكن الشعب الجزائري هو الذي سيحققه، إن الشيء الوحيد الذي يجب أن نقدمه للجزائريين اليوم هو أن نؤازرهم في جهادهم لتحريرهم وتحرير الفرنسيين من وصمة العار".
وبلغ عدد شهداء الجزائر منذ احتلالها سنة 1830 إلى استقلالها عام 1962 بحسب تقديرات رسمية جزائرية 8 ملايين ونصف مليون شهيد.
أما سنوات الثورة التي استغرقت 7 سنوات ونصف فقد ارتوت أرض الجزائر بدماء طاهرة لأكثر من مليون ونصف المليون شهيد.
وبلغ عدد المعتقلين في المراكز التي أقامها المستعمر الفرنسي لجمع الجزائريين وإبعادهم عن الثورة 3 ملايين، إضافة إلى 40 ألف في السجون الفرنسية، و300 ألف لاجئ في تونس والمغرب، و700 ألف نازح من القرى والأرياف إلى المدن.
"الشهيد الذي لا قبر له"
ولعل قصة "الشهيد الذي لا قبر له" تلخص جانبا من وحشية المستعمر الفرنسي، وهو الشهيد "العربي التبسي" الذي "أحرق عاريا بزيت السيارات الممزوج بالأسفلت"، في محاولة لإرغامه على التراجع عن دعم الثورة.
ولأنه رفض الرضوخ أمر الاحتلال الجنود السنغاليين "بإدخاله في قدر زيت السيارات الممزوج بالأسفلت الذي كان يغلي"، ورغم ذلك تمكن الشهيد من نطق الشهادتين.
من أسرار النجاح
وبطولات وتضحيات الجزائريين في ثورتهم لم تقتصر على رجالها، بل كانت المرأة واحدة من أسرار نجاح الثورة، حيث تؤكد سجلات المحاربين القدامي أن 11 ألف جزائرية حاربت.
وإلى جانب القتال والتجسس والتمريض وجمع التبرعات، كانت المرأة تنقل الأسلحة إلى المجاهدين داخل ملابسها، وامتلكت الشجاعة لتمرير قنابل موقوتة تضعها أينما يوجد المستعمر.
ولعل ما قاله أحد الجنود الفرنسيين في مذكراته خير دليل على دور المرأة الجزائرية: "عندما كنا نقوم بعمليات تمشيط ومداهمة القرى والجبال للبحث عن المجاهدين، ما كان يحز في قلبي ويشعرني بالخجل هو ردة فعل النساء، حيث كن يهرولن ويهربن بسرعة البرق نحو اسطبلات الحيوانات عند رؤيتنا، ويقمن فورا بتلطيخ أجسادهن بالروث وفضلات الحيوانات حتى نشمئز منهن عند محاولات اغتصابهن، ولا نقربهن بسبب الرائحة الكريهة، حقا صورة لن تغادر ذهني ما حييت، وتجعلني أكن احتراما لهؤلاء اللاتي قمن بالسباحة في الروث لأجل شرفهن".
أين روح نوفمبر؟
مع كل عيد وطني يخرج السؤال المعتاد: ماذا بقي من روح ومبادئ ميثاق نوفمبر/تشرين الثاني في السياسة وعند أجيال المستقبل؟
المجاهد "محمد عبد المولاي" قال في حديث مع بوابة العين الإخبارية "إن الأجيال الحالية لم تترب بالقدر الكافي على التعلم وأخذ العبرة من التاريخ المشرف للجزائر، خاصة من ثورة أبطالها مجاهدون وشهداء اتجهوا إلى الموت وليست الموت من راح إليهم".
في حين يقول المحلل السياسي، عبد العالي رزاقي في اتصال مع بوابة العين الإخبارية "إن تغييب الذاكرة الوطنية يبدأ من المناهج التعليمية، فلا يعقل أن يغيب ميثاق الثورة وقصص بطولات وتعذيب المجاهدين عن المناهج، والأجيال الحالية لا تتحمل المسؤولية في ذلك".
بطولات وتضحيات وثمن غال دفعه الجزائريون ليروا نور الاستقلال، حينما ازدانت سماء وأرض الجزائر في 5 يونيو/حزيران 1962 بعبق الحرية لشعب صانع ملحمة عنوانها "الحرية تؤخذ ولا تعطى".